لنبدأ بتمرين ذهني رياضي بسيط، لنفرض إنني طلبتُ من القارئ الكريم أن يختار ثلاثة أعداد مجموعها (10)، واختار القارئ (1، 3، 6)، نلاحظ هنا أن اختيار أول عدديّن، أي (1، 3) كان عشوائياً، أي بمطلق حريّة القارئ، لكن اختيار العدد الثالث (6) لم يكن كذلك، لأنه لا بدّ أن يكون مكمِّلاً للمجموع (10)، أي أنّه من أصل أيّ ثلاثة أعداد، يكون الفرد حراً في اختيار عددين فقط، ويطلق على عدد الأعداد التي يكون الفرد حراً في اختيارها درجات الحرية، فإذا كان المطلوب انتقاء أربعة أعداد، فستكون للقارئ الحرية في اختيار ثلاثة أعداد فقط، وهكذا دواليك.
لنأخذ مثالاً آخر من الحياة الاجتماعية، فنفترض جدلاً أن شخصاً ما أنعم الله عليه بالثراء والجاه والنفوذ، لكنه حينما اقترن بشريكة العمر تبيّن أنه عقيم، ولم تفلح كل محاولات الطب في علاجه (وهذا بالمناسبة يحدث كثيراً). في هذا المثال أيضاً نجد أن هذا الشخص المقصود ربما يكون قد صنع مجده بنفسه، حيث عمل جاهداً لتكوين ثروته وبسط نفوذه في المجتمع، وكان حراً في ما فعل، باعتبار أن ذلك من حقه كمواطنٍ، لكنه لم يكن حراً في أن يكون عقيماً، فتلك مشيئة إلهيّة، لكن هذه النقيصة هي التي سوف تدفعه ربما إلى التبصّر في مفهوم «العدالة الاجتماعية»، وربما تحفِّزه على تبنِّي طفل أو عدّة أطفال، ومن ثم ستجعل لحياته معنى حقيقي، وهنا أيضاً نجد أن درجات الحرية تساوي الثروة والجاه والنفوذ منقوصاً منها العجز عن الإنجاب.
ومثالاً ثالثاً من الحقل التربوي، لنفترض في هذه المرّة أن طالباً كان مستواه التحصيلي ضعيفاً، وفجأة أصيب بالإعاقة السمعية نتيجة لمرض ما، فصار يستخدم السماعات المكبِّرة للصوت وغيرها من التقنيات الخاصة بالمعاقين كي يحقِّق المواءمة مع الحالة الجديدة، وحينما بدأ التكيّف صار عليه اللحاق بزملائه في الصف من غير المعاقين، فازدادت دافعيته للتعلم، وبدأ مستوى تحصيله يرتفع تدريجياً، وأصبح يُصنّف في خانة الطلبة مرتفعي التحصيل، وكل ذلك بسبب حاجته إلى تعويض النقص الذي ألّم به من جراء الإعاقة؛ وهكذا نخلص إلى افتراض أولِّي أن ثمة حاجة جوهرية مفقودة لدى أي فرد ما، أياً كان جنسه، ووضعه المادي، ومكانته الاجتماعية، وهذه الحاجة الناقصة هي التي تحفِّزه على بذل كل ما في وسعه للنجاح في الحياة!
{{ article.visit_count }}