يمكن للإعلام أنْ يتحالف مع مجالاتٍ أخرى، لأنه ليس أيديولوجيا أو فكرة، الإعلام أداة. يخطئ من يحمل الإعلاميين أوزار العالم، نستمع كثيراً إلى عبارةٍ مثل “الإعلاميون هم سبب كذا”. ينسون أنَّ الإعلام فيه توجهاتٍ كثيرة، من الإعلام الشيوعي إلى الليبرالي إلى الإسلامي. الإعلام ليس وحدةً متكاملةً بحيث تحاكم وتحاسب على كل الجرائر التي يقوم بها أي إعلامي، كل إنسان يمثل نفسه، والأخطاء يتحملها الفرد ولا تتحملها الأداة الإعلامية. لكل إعلاميّ رؤيته ولكل فردٍ مسؤوليته. نستمع هذه الأيام وتحديداً مع مرور شهر رمضان المبارك إلى من يحمِّل الإعلام المسؤولية الإعلانية. بين من يستغرب أنْ يكون الإعلان بكل هذا الوقت الطويل الذي يبذل وبين من يقول إن الإعلان يخرب البيوت وينشر ثقافة الاستهلاك.
وبطبيعة الحال فإنَّ ثقافة الاستهلاك كما يرى فيلسوف علم النفس “إريك فروم” جزء من الرغبة بالتملك. لدى الإنسان حالة من العشق للتملك تبدأ منذ الصغر، حين يرضع أصابعه ويدخل يده كلها في فمه. والإعلان يلعب على وتر التملك النفسي. يصبح المشاهد أسير الأسلوب الإعلاني، يسجن نفسه بالصورة التي تسحر. ولهذا يتطلع دائماً إلى شراء الجهاز الجديد، أو أصناف الأكلات أو المنتجعات والرحلات. يعتبر البعض الإعلان جريمة إعلامية. وينسى أن الإعلان قائمة سوق بذاتها تحتاجها الوسيلة الإعلامية، من أجل استمراريتها. الإعلان واقع قائم يتغذى عليه الإعلام وهو ليس عيباً أو جرماً.
التحدي أن يكون الإنسان مستقلاً وأن يمسك بزمام نفسه أمام مغريات الإعلان، لا أن يقف الإعلان خوفاً من التغرير بالإنسان. من جهةٍ أخرى فإنَّ الإعلام لديه مسؤولية أخلاقية تجاه ما يعلن. مثلاً من الخطأ الإعلان لماركات الدخان، أو الأمور التي تمس الأخلاق، أو ما يخدش المجتمع، لكن بقية الأمور فإن الإعلان عنها عادي جداً، وبخاصةٍ حين تكون في إطار الحاجيات أو التي تصب في مجال الترف. والمثل يقول “مد رجلك على قد لحافك”. لا تتورط بالشراء الاستهلاكي، ولا تحارب الإعلانات فقط لأنها قد تجرّك إلى التشوف والتطلع لشراء هذا الشيء أو ذاك.
القنوات غير الربحية أو المدعومة من الحكومات يمكنها أن تستغني عن الإعلان أو أن تخفف منه، لأنَّ دخلها مضمون، غير أنَّ القنوات الربحية التي لا داعم لها إلا مالكها تحتاج بشكل ملح إلى إعلاناتٍ كبيرة، بل وإلى صناعة إعلانية حقيقية. ولا عجب أن تهتم القنوات الفضائية بالسوق الإعلانية، وأنْ تخصص أقساماً لهذا المجال، يضم متخصصين في كل تفصيلٍ منه. والقنوات تتنافس على جيوب المعلنين لأنها تريد أن تستمر لا أن تنقرض. والناس يريدون للقنوات أن تستمر أيضاً. لكنهم لا يتحملون الإعلانات التي تهيء الاستمرارية والبقاء والتطور عبر السنين.
المسؤولية الإعلانية على الإعلام ليست مسؤولية ثقافية بحيث يحال مرض الاستهلاك فقط إلى الإعلانات والقنوات الفضائية أو إلى “الإعلاميين”، بل يحال إلى الإنسان الذي لا يستطيع أن يمسك زمام نفسه عن موج الاستهلاك المتلاطم. الاستهلاك مرض نفسي واجتماعي وليس مرضاً إعلامياً كما يروّج البعض. الكثير من الكوارث توضع على الإعلام، وكأنَّ المجتمعات غير مسؤولة أيضاً عن أمراضها. الإعلام أداة تتحرك وفق متطلبات المجتمع لأنه يعتاش على عيون الناس ولو أنهم فعلاً يكرهونه لما بقي قائماً حتى الآن، ولو أنَّ الإعلام مفروض اجتماعياً لما وجد المعلنين، ولما ازدادت أعداد المشاهدين، ولما انهالت رسائل ومكالمات ومشاركات بالملايين من الناس.
لا تلقوا باللوم على أداةٍ كالإعلام، بل علينا أن ندرس كل ظاهرةٍ في مجالها، ومشكلة الاستهلاك والإعلان تدرس بعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاقتصاد، هذا هو البحث الحقيقي لمثل هذا المجال.