من الطبيعي أن يكون للسياسة الخارجية مساحتها الواسعة في خارطة أي نظام يحكم مصر، التي يبدأ حضورها السياسي بالدائرة العربية، ثم لا يستطيع أن يتحاشى علاقاتها الوشيجة بدول القارة الأفريقية، يعزز من أهمية كل ذلك انتمائها الإسلامي، الذي يكرسه وجود الأزهر الشريف. تتضافر كل هذه العوامل، كي تمد مصر بمكانتها الدولية التي تتمتع بها، والتي تجعل من يحكمها مطالباً بأن يولي العلاقات الدولية أهمية لا تقل عن تلك الداخلية. لكن ما هو أكثر إلحاحاً في هذه المرحلة هو العلاقة مع ثلاثة أطراف خارجية، سترسم الكثير من معالم السياسة الخارجية المصرية، خلال مرحلة حكم الإخوان المسلمين، بعد فوز مرشحهم محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية. الطرف الأول هو الولايات المتحدة، والتي هناك مصالح مشتركة متبادلة لا يمكن لأي من الطرفين: القاهرة وواشنطن أن يتريث في تحديد خطوطها العامة في حدها الأدنى، والثانية هي إسرائيل، التي لن يبيح تشابك القضايا الأمنية بين البلدين مع الارتباطات التي تحكم الطرفين، أن يؤجل بروز ملفها على طاولات مفاوضات رسم العلاقات بينهما، والثالثة هي إيران نظراً لتعقد أوضاع الحضور الإيراني في المنطقة العربية، بدءاً من الجنوب اللبناني، مروراً بدمشق، وصولاً إلى العراق، قبل أن يحط الرحال في الخليج العربي.
نقطة في غاية الأهمية نلفت لها، وهي أن تناول الدائرة الأمريكية، لا ينبغي أن يحول جماعة الإخوان إلى عملاء للولايات المتحدة، والحديث عن إسرائيـل لا يضعهم في خانة التواطؤ على القضية الفلسطينية، وتناول الشريط الإيراني الممتد من طهران حتى “قلعة شقيف” في لبنان، لا يعني تفريطهم في القضايا العربية. الأمر هنا يتطلب مستو عال من النضج السياسي، ودرجة متقدمة من القدرة على تحليل جدلية العلاقات الدولية التي تفرض نفسها على من يحكم مصر، بغض النظر عن انتمائه العقيدي، أو ارتباطه الأيدلوجي. لكن لفتة مهمة في إطار الحديث عن الدائرة الدولية، هو ما رصده أبوالفضل الإسناوي، في مجلة “ السياسة الدولية”، حيث يعتبر، بناء على قراءته لبرنامج الإخوان الانتخابي أنها ستكون “لصالح التنظيم أكثر مما تكون لصالح بلد متكامل”.
في إطار الدائرة الأولى، وبالنسبة للعلاقة مع الولايات المتحدة، لا بد من التأكيد على أن لها جذورها التاريخية التي تعود إلى ما قبل فوز مرسي، وهو كما ينقلها الكاتب بكر أبو بكر عن “تصريح د.محمود غزلان المتحدث الإعلامي الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين على موقع الإخوان المسلمين أن مكتب الإرشاد قرر أن الحوار مبدأ ثابت لدى الإخوان المسلمين طيلة تاريخهم ومع كل القوى والاتجاهات، ومن ثم فنحن مستعدون للحوار مع الإدارة الأمريكية إذا قررت ذلك في إطار من الاحترام المتبادل. مضيفاً نحن نعتبر تصريحات مسؤولين أمريكيين عن إجراء حوار رسمي مع الجماعة أحد مكتسبات الثورة (25 يناير 2012)”. ومن جانبها، أكدت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على أن “أمريكا مستعدة للتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين إذا صعدت إلى السلطة”.
وقد سبق كلينتون إلى الكشف عن تلك العلاقة، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكي في حديث نشرته “الأهرام” المصرية في 15 أغسطس 2011، أشار فيه إلى أن “مسؤولو الحكومة الأمريكية يلتقون رموز وأعضاء (بجماعة الإخوان المسلمين) بشكل مستمر وفى إطار حوار مع القوى السياسية حول مستقبل عملية التحول الديموقراطي في مصر”.
هذا كله، وتصريحات أخرى من الطرفين، يشيران إلى أن هناك علاقة لم تنقطع، بل تعود إلى الخمسينات من القرن الماضي، لكن الأهم من هذا البعد التاريخي، هو الأفق المستقبلي، الذي يتوقع له أن تسوده ملفات ساخنة، أولها الملف الإسرائيلي، وثانيها ملف العلاقات مع إيران، دون إهمال العلاقات مع الأقباط، خاصة بعد أن نجح “الإخوان” في تشكيل جماعة ضغط متعاطفة معهم، ولها علاقات وثيقة مع الإدارة الأمريكية الحالية، يقودها أربعة أشخاص هم “من كبار الشخصيات الأمريكية: غراهام فولر، ورول غريشت، وإدوارد دجيرجيان، وليزلي كامبل.. ويعد هذا الرباعي من أكثر المؤيدين للإخوان وأهدافهم في الولايات المتحدة وهو ما يظهر في أبحاثهم التي يقدمونها للإدارة الأمريكية، وفي بعض الأحيان يقدم الرباعي بعض الاستشارات لمكتب الإرشاد”، التابع لجماعة “الإخوان”.
الدائرة الخارجية الثانية هي الدائرة الشرق أوسطية، وتحديداً العلاقات مع إسرائيل، والتي يبدو أنها، كما كشفت عنها صحيفة “يديعوت أحرونوت، لم تكن مقطوعة، قبل فترة، مشيرة إلى احتمال عقد “لقاء مرتقب يجمع نواب من البرلمان المصري، بينهم أعضاء تابعين لجماعة الإخوان المسلمين وبعض أعضاء من الكنيست الإسرائيلي في الولايات المتحدة الأمريكية بالعاصمة واشنطن، في ظل التوتر في العلاقات بين البلدين ومن أجل تقريب وجهات النظر المصرية والإسرائيلية”.
وجدول أعمال العلاقات المصرية الإسرائيلية، بعد وصول الإخوان إلى الرئاسة سيتمحور حول قضيتين أساسيتين، الأولى والأهم وهو حماية أمن الدولة الإسرائيلي في حدودها المتاخمة لصحراء سيناء، والثانية هو موقف الدول المصرية من أنشطة منظمة “حماس”، وهل سيضطر “الأخوان المسلمون”، إلى التعاطف مع هذه الأخيرة بوصف كونها الجناح الفلسطيني للجماعة؟ لا ينبغي أن نغفل هنا احتمال مراهنة إسرائيل، أن تثمر أية محادثات بين الدولتين، إلى إقناع القاهرة، بأن طريق السلام يمر عبر بوابة الحوار وليس العنف، ومن ثم تطلب من “الجماعة” ممارسة شيء من الضغوط “اللينة” على حماس، كي تخفف من لهجتها العلنية التصعيدية، وتنخرط بشكل علني استراتيجي في محادثات السلام بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية.
الدائرة الثالثة، وهي الأكثر تعقيداً، نظراً لتشابك السياسي مع المذهبي، فمن الطبيعي أن تحاول مصر “السنية “ تشكيل مثلث “سلطوي” يحتضن تحت جناحيه، حزب النهضة الحاكم في تونس، وجماعة الإخوان في المغرب، سوية مع “إخوان الأردن” الذي يجاهدون من أجل حضور أكثر تأثيراً في الدولة، وربما في مرحلة لاحقة “إخوان” سوريا في حال سقوط نظام الأسد. هذا المثلث يسعى لأن يقف، بالإضافة إلى تعزيز مواقع “الإخوان” في المنطقة، في مواجهة الشريط “الشيعي” الذي تقوده إيران الباحثة عن دور رئيس في خارطة الشرق الأوسط الجديدة التي لن يتوانى الإخوان عن العمل من أجل احتلال مصر موقعاً ريادياً فيها، يعيد لمصر دورها المميز الذي مارسته في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إن لم يكن أقدم من ذلك التاريخ. إذا مزجنا ذلك بتوتر العلاقات العربية – الفارسية في منطقة الخليج، فمن الطبيعي أن تضع هذه الحالة المعقدة القاهرة أمام خيارات صعبة، بين دائرتها العربية وطموحاتها الشرق أوسطية، وانتماءاتها المذهبية بعد وصول “الإخوان” إلى الرئاسة.
حقق “الإخوان” الفوز في انتخابات الرئاسة، وهو إنجاز من الخطأ الاستهانة به، أو التقليل من الجهود التي وقفت وراءه، لكن ما هو أهم منذ ذلك المكسب، هو القدرة على إدارة دفة الحكم بشكل مدني ديمقراطي على الصعيد الداخلي، ومتوازن وقادر على الثبات والحضور المؤثر على الصعيد الخارجي.