يتم في كثير من الأحيان الحديث عن المواطنة باعتبارها حزمة من الحقوق فقط، خصوصاً عندما يعلن الواحد منا: “أنا مواطن” بكل ما تفرضه الكلمة له من حقوق، ولكن في ذات اللحظة يغيب الجزء الثاني من المعادلة التعريفية، وهي أن المواطنة هي أيضاً واجبات.. ولا شك أن هذا الخلل في التعريف يعكس عقلية اعتادت أن ترى المواطنة مجرد انتفاع من امتيازات يوفرها الوطن، وعندما يأتي الحديث عن الواجبات يتوقف الكلام.
المواطنة إذن حقوق وواجبات، بل هي التزام تجاه النفس والآخر والوطن في ذات الوقت، وهي أيضاً ثقافة ورؤية اجتماعية وسياسية تسهم في بناء المجتمع الديمقراطي، فجميع الدول التي نجحت فيها الديمقراطية وأسهمت في الاستقرار والتنمية، نجحت فيها بداية تربية المواطنة، المواطنة التي تتعالى على الانتماءات الحزبية والطائفية والمناطقية.
ولكي نؤمن بقاء الديمقراطية ونموها وتطورها وحمايتها من التعثر علينا أن نعمل على تنمية المواطنة التي تتجاوز حدود الانتماءات الضيقة وتأخذ في الحسبان العلاقة الجدلية بين الحقوق والواجبات.
وبغضّ النظر عن المنطلقات السياسية والأهداف الخاصة بكل فريق أو حزب أو جمعية حول موضوع تربية المواطنة، فكل طرف له أسبابه العامة والخاصة في هذه القضية، فإن هنالك اليوم إجماعاً حقيقياً على أهمية تدريس هذه المادة وتدريب المواطنين الصغر على قيم المواطنة في مجتمع ديمقراطي تعددي..
ومجرد أن يكون موضوع تربية المواطنة في المدارس مدار حوار ونقاش، فأمر صحي، خاصة وأن الخلاف لا يدور حول مدى الحاجة إلى المواطنة ولا حول أهميتها، وإنما حول سبل تربية المواطن على قيم المواطنة.. ولكن يجب في ذات الوقت أن يكون واضحاً أن المواطنة ليست مجرد درس أكاديمي يتعلمه المواطن فيحفظه فيكون بعد ذلك مواطناً، وإنما هي شبكة متكاملة من الأفعال والأقوال والمشاعر والمساهمات، تناط مسؤوليتها بالأسرة أولاً وبالمدرسة ثانياً وبالمجتمع ثالثاً، وعليه لا يمكن أن تكون تربية المواطنة بمكوناتها المنهجية والتعليمية والتربوية والاجتماعية أمراً تافهاً، لا يمكن أن يكون مدار دراسة، بل العكس هو الصحيح، ولا أدل على ذلك من أن تربية المواطنة أو التربية الوطنية جزء أصيل من مناهج دول العالم المتقدم، في جميع المراحل الدراسية، وإن تنوعت تعبيراتها وأشكالها، حيث يتم التركيز على أبعاد الحقوقية المدنية، وكذلك على الأبعاد الاجتماعية-الاقتصادية، والأبعاد الثقافية والفنية..
فالمواطنة، من وجهة نظر حقوقية لا تتوقف عند اكتساب الهوية بمفهومها الإداري والقانوني والتمتع بما يضمنه هذا الاكتساب من حقوق مدنية وسياسية فحسب، بل تتعرف إضافة إلى هذا بالمشاركة في الحياة العامة أيضاً، وصولاً إلى تأكيد ارتباطها بالهوية المشتركة، هذا التعبير عن الانتماء إلى الهوية المشتركة والذي لن يكون على الصعيد القانوني فحسب بل وبشكل عملي، لا يلغي احترام الخصوصيات المميزة للطوائف والأقليات، والإبقاء على احترام حرية المعتقد، وبخاصة مع التأكيد على فكرة التجدد الدائم لمفهوم المواطنة، وإذا كان الوضع القانوني للمواطنة ثابتاً إلى حد ما، فإن معنى المواطنة خاضع لعملية بناء مستمر؛ أي أن الرغبة في العيش المشترك يجب أن تتجدد وتتعمق كل يوم، وهي بهذا المعنى عنصر أساسي في عملية الاندماج، هذه العملية بالغة الأهمية ويجب أن ترتبط بشكل وثيق، ببناء الدولة الديمقراطية، فلا مكان لتعميق مفهوم المواطنة بشكله الصحي ولا لبناء المواطن الحر، إلا ضمن المجتمع الديمقراطي القادر على استيعاب كافة المكونات العرقية والمذهبية والثقافية في كيان واحد، يترجمه الالتزام بالدفاع عن مقومات العيش المشترك والاعتزاز بهذا الانتماء بمكوناته التاريخية والحضارية والاجتماعية والثقافية على تنوعها.. فالمواطنة بهذا المعنى تحيل إلى عدة أبعاد متّصلة بالرباط الاجتماعي، منها:
- أن المواطن ليس مجرّد مقيم بل هو شخصيّة لها حقوق وعليها واجبات ومسؤوليات قد تصل إلى التضحية بالغالي والنفيس- بما في ذلك الحياة- دفاعاً عن الوطن واستقلاله وحريته وسيادته.
- إن المواطن يجب أن تتاح له فرصة المشاركة في الحياة الوطنية ويساهم في تحقيق التنمية ويشارك في الانتفاع بها بما يعني أن التنمية أخذ وعطاء في ذات الوقت.
- الارتباط الصادق والمخلص بالرابطة الوجدانية التي تكون مصدراً لهويّة جماعية، ويتحقّق هذا البعد بصورة كاملة إذا كانت حقوق المواطنة تمثّل للفرد أهمّية شخصية خاصّة أو كان انخراطه في الحياة الوطنية فعليّاً وبطريقة حرّة في مختلف الأنشطة التي تُمارَس في وطنه والتي من خلالها تتجلّى حقوقه المدنية والسياسية والاجتماعية و الاقتصادية.