تقف سوريا اليوم أمام منعطف مفصلي، بكل ما تحمله كلمة مفصلي من معنى. فبعد مجزرة قرية الترميسة القريبة من حماة، والتي لا يصل عدد سكانها إلى أكثر من 6 آلاف نسمة، بدأت الأمور تأخذ منحى مختلفاً، تجعل من الأوضاع التي آلت إليها الأمور في سوريا، والطرق التي سلكتها، حالة مختلفة نوعياً وكمياً، عن تلك التي عصفت بالمنطقة العربية منذ بداية أحداث “الربيع العربي”.
فعلى المستوى الزمني، تقترب سوريا من عامها الثاني، دون أن تصل الأمور إلى نقطة فارقة ملموسة على صعيد موازين القوى، ومن ثم حسم الصراع. فرغم تلك الانسحابات التي عانت منها مؤسسات النظام المدنية والعسكرية، والانضمام إلى قوى المعارضة، وكان آخرها انشقاق السفير السوري لدى بغداد. أما على مستوى المجازر والتضحيات، فقد تجاوزت سوريا باقي الدول العربية، بما فيها ليبيا التي ارتكب في شعبها نظام القافي مجازر اقشعرت لها الأبدان. ولعل في مجزرة الترميسة التي ذهب ضحيتها ما يقارب من 200 شخص، وهي واحدة من عشرات أخرى غيرها، دلائل ملموسة على ما قدمه الشعب السوري من ثمن باهظ في سبيل إنهاء حكم الأسد. وعلى صعيد موازين القوى، لم تصل تلك الموازين إلى النقطة الحاسمة المطلوبة التي تفرز، بشكل جلي، انقلابها لصالح طرف على طرف آخر. ولعل في إصرار النظام السوري، بين الحين والآخر، على التصعيد المفاجئ غير القابل للتفسير، سوى التأكيد على أن هناك في جعبته بعض الأوراق التي بوسعه استخدامها، سواء على المستوى الداخلي في شكل مجازر متتالية، أو على المستوى الخارجي، عن طريق الضغط على روسيا كي لا تغير من مواقفها التي لاتزال منحازة، وبشكل سافر لصالحه، ما يؤكد استمرار التوازن بين القوى على أرض المعركة.
ومع ضرورة التأكيد على حقيقة أساسية لابد من ترسيخها، وهي أن الشعب السوري قدم من التضحيات، ما لا يستطيع أن ينكره أحد، وما سوف يسجله التاريخ له بأحرف من ذهب، لكن ذلك لا ينبغي أن يعمي من ينظر إلى ساحة الصراع في سوريا، ويقرأ بوصلة اتجاهاه سيرها، يلمس أن بوادر سمات الحرب الباردة بدأت تطفو على سطح تلك الأحداث، منذرة بخروج الأمور من أيدي النظام قبل المعارضة، لصالح القوى الدولية المتصارعة، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة وحلفائها على طرف، والحلف الصيني – الروسي غير المعلن على الطرف الآخر. نقول ذلك مع تأكيدنا عل ضرورة الاعتراف بما قدمه الشعب السورية، وقواه المختلفة من تضحيات جسام، يستحق أن يكافأ عليها بإقامة نظامه السياسي الذي يختاره، حيث لم يعد من حق بشار الأسد أن يستمر في الحكم بعد أن قال المواطن السوري كلمته فيه، والمنادية بخلعه، إن هو أصر على البقاء في الحكم، وفضل خيار العنف الذي لم ينفع القذافي من قبله، وأصر على إنكار نجاح تجربة نظيره بن علي حاكم تونس، الذي اختار الرحيل، في بدايات اندلاع الأحداث، فوفر على الشعب التونسي الكثير من التضحيات غير الضرورية. نقول ذلك بعد أن أصبح الوقت متأخراً لتكرار سلوك العاهل المغربي، الذي استبق الأحداث، وأقدم على بعض التغييرات الدستورية والسياسية، شجعت المعارضة المغربية على القبول بالشكل السلمي، ووفرت على المغرب، هو الآخر، تقديم تضحيات غير ضرورية.
كل ذلك، وأخذاً بعين الاعتبار مسار الثورة السورية، إن جاز لنا استخدام هذا التعبير الذي ربما يوجد من يخالفنا الرأي في دقته من وجهة نظرهم، يدفعنا نحو التحذير إلى دخول سوريا نفق الحرب الباردة، التي باتت معالمها تتبلور في الظواهر التالية:
1. مواقف المعارضة وتصريحاتها الرسمية، فمن يتابع ما تركز عليه مؤتمرات المعارضة الصحافية، يجد أنها تقفز بشكل سريع، بعد وصفها لبشاعة ما أقدم عليه النظام السوري، إلى الاستنجاد بالقوى الدولية والعربية، مناشدة إياها التدخل، بما في ذلك التدخل العسكري المباشر عن طريق قوات دولية، من أجل حسم الصراع لصالحها. هنا، وحتى إذا ما أعطي الحق لهذه المعارضة في هذا السلوك، لكن ذلك لا يمنع أن تقود تلك المطالبات أو المناشدات، إلى فتح الباب، وهو ما بتنا نشهده، على مصراعيه أمام القوى الدولية كي تصفي حساباتها الذاتية، من خلال الساحة السورية.
2. موازين القوى على الساحة، وعدم وصولها إلى نقطة الحسم لصالح طرف ضد الطرف الآخر، ولجوء كل منهما إلى التسلح من أطراف دولية. فعلى مستوى النظام، ورغم إنكار موسكو العلني، وتصريحاتها الرسمية بوقف تسليح نظام بشار الأسد، لكن تقريراً موثقاً قامت به مجلة التايم الأمريكية في عددها الأخير الصادر في 23 يوليو 2012، يكشف الستار عن وفود رسمية سورية ذهبت للتبضع العسكري من موسكو، إلى جانب ما تقتنيه من سلاح “شرقي” من الأسواق السوداء غير البعيدة عن عيون موسكو. مقابل ذلك، تلجأ المعارضة، وهي مجبرة على ذلك، إلى قوى دولية، وأموال عربية من أجل تأمين حاجتها من السلاح، إما مباشرة من دول غربية، أو من أسواق ليست بعيدة عن رقابة تلك الدول، ولا سيطرتها.
3. الحضور الفعلي المؤثر للقوى الدولية في كل المؤتمرات التي عقدت لمناقشة القضية السورية، بل وشكل غياب أي من الدول ذات العلاقة بالصراع، كما حدث عندما تخلفت الصين وروسيا عن مؤتمر باريس الأخير، أحد الأسباب الرئيسة الذي قاد إلى فشلها في التوصل إلى قرارات واضحة، وإجراءات ملموسة ذات علاقة بالصراع السوري. مقابل ذلك نشاهد حضور باهت للمعارضة السورية، التي يعود أحد أسباب ذلك الحضور الباهت إلى الصراعات التي لاتزال ممسكة بتلابيبها، وتحول في كثير من الأحوال، دون حسم الأمور لصالحها، ناهيك عن أنها تفقد المعارضة القدرة على الأخذ بزمام المبادرة، كي تنقل صنع القرار إلى يديها، بدلاً من انتظار ما تتمخض عنه جلسات الأمم المتحدة، أو قرارات مبعوثها الدولي العربي كوفي أنان.
لاشك أن وصول الأمور في سوريا إلى ما هي عليه الآن، وانتقال صنع القرار من حيزه المحلي إلى نطاقه الدولي، له مبرراته الموضوعية، لعل الأبرز والأكثر أهمية من بينها هو واقع سوريا الحالي، الذي جعل منها نقطة الارتكاز الأخيرة التي ستحدد مسار الأوضاع في منطقة الشرق الوسط الذي تحاول كل واحدة القوى الدولية أن تعيد رسم خارطته الجديدة، بما يؤمن لها أكبر قدر من المصالح، ويضمن أفضل السبل للدفاع عن تلك المصالح، ولأطول فترة ممكنة. ومن ثم فمن الخطأ تحميل المعارضة مسؤولية اكتساب الصراع فوق الأرض السورية مواصفات الحروب الباردة التي كانت تشعل فتيلها الدول الكبرى، ويكون وقودها القوى المحلية، تحاشياً لصدام أكبر، وعلى نطاق أوسع من قبل تلك القوى الكبرى. لكن ذلك لا يعني، وبغض النظر عن نوايا المعارضة، أن الصراع السوري اليوم، أصبح شكلاً من أشكال الحروب التي عهدناه في مرحلة الحرب الباردة