يرى المختصّون في الشأن الإعلامي أن ثمة ظاهرة غريبةً تتفشّى في المجتمعات المعاصرة، وجوهرها أنه على الرغم من تفاقم ظاهرة البطالة والإقصاء والفقر، إلا أن النشاط الإعلاني في نموٍ مضطردٍ، حيث يُقدّر حجم أعمال الشركات العاملة في هذا القطاع بملايين الدولارات؛ ويعزو المحلِّلون الإعلاميون هذه الظاهرة الفريدة نسبياً إلى ثلاثة عوامل أساسية وهي:
العامل الأول: الانقلاب الذي حدث في تطوّر النظام الرأسمالي، حيث كانت آلية “العرض يحدِّد بالطلب” هي السائدة منذ زمن آدم سميث، وهي التي حكمت صيرورة النظام، غير أننا اليوم نشهد تغيراً جذرياً، حيث إن العرض هو الذي يحدِّد الطلب، وحيث تنفق المؤسّسات الاقتصادية الصناعية الكبرى أموالاً طائلةً لخلق حاجات لدى المستهلك من خلال مضايقته بصورة أبدية، وتوليد حاجات ثانوية باعتبار أن الحاجات الحقيقية تم إشباعها من قبل، ولا غرابة إذاً أن تنفق الشركات لترقية منتج رائج أموالاً أكبر من تلك التي أنفقتها أصلاً لإنتاجه. أضف إلى ذلك أن الاقتصاد الرأسمالي أصبح يستهدف العقل والروح عبر التركيز على تسويق نمط حياة استهلاكي.
أما العامل الثاني فيرتبط بالتطوّر الهائل لوسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، وبروز مجتمع الاتصال القائم على الثورة المعلوماتية، والمتمثِّل في انتشار مواقع الشبكات الاجتماعية عبر أنحاء العالم، وأهّم ظاهرة مصاحبة لهذا التطوّر هو تحوّل جمهور الوسائل الإعلامية إلى سلعةٍ، حيث بات التلفزيون يبيع جمهوراً للمعلنين، وأصبح هذا الجمهور “المسلّع” يخضع للدراسة المستفيضة لمعرفة ميوله، ورغباته، ومواقفه، وأحلامه، ومن ثم صار المستهلك هو في الواقع من يموِّل هذه النفقات الإعلانية دون أن يعي ذلك، لأن الأموال التي تنفقها الشركات الاقتصادية على الإعلانات تضيفها إلى سعر المنتجات “السلع”، إذ تشير التقديرات إلى أن المواطن في أوروبا يدفع سنوياً قرابة ألفيّ يورو ثمناً للإعلانات التي يشاهدها سواءً في أوقات فراغه أو عمله.
العامل الثالث هو اعتماد الصناعة الإعلانية على أكثر التقنيات تطوّراً في مجال استغلال المعطيات، ودراسة سلوك الأفراد، ومعرفة كيفية التأثير على هذا السلوك من خلال الوسائل الإعلانية، حيث تُختبر ردود الأفعال، ويُدفع الناس قسراً لشراء سلع ليسوا في حاجة لها أصلاً، ومن الطبيعي أنهم لا يمانعون في اقتناء تلك السلع طالما أنهم هم من يمِّولون إعلاناتها!