يفترض بشبه الجزيرة العربية والخليج العربي أن تتضمنا ثلاث دويلات فقط على النحو التالي: أولاً: دويلة “الأحساء الشيعية”: وتضم كلاً من الكويت والإمارات وقطر وعمان و«البحرين”. ثانياً: دويلة “نجد السنية”. ثالثاً: دويلة “الحجاز السنية”. هذا التقسيم ورد في تفاصيل مخطط مدروس بعناية قدمه المستشرق الأمريكي البريطاني الأصل برنارد لويس (مواليد لندن عام 1916) في مشروعه الذي اعتبر أخطر مشروع لتفتيت العالم العربي والإسلامي، والقائم على تقسيم دول منطقة الشرق الأوسط إلى دويلات وكانتونات على أساس الانتماءات العرقية والقبلية والمذهبية، وبحسب التقسيم أعلاه نجد أن البحرين وقعت ضمن منطقة يفترض بحسب التقسيم أن تكون تحت وصاية شيعية مطلقة. كثيرون لا يعرفون من هو برنارد لويس، وما هو الدور الذي لعبه على امتداد عقود طويلة ماضية في “صياغة” أسلوب جديد لـ«الاستعمار الغربي” وتحديداً الاستعمار الأمريكي بغية إعادة إحياة فكرة “الهيمنة المطلقة” على مقدرات العالم خاصة بعد انتهاء حقبة الانتداب الغربي واستعمار البلدان وتطويع إرادة الشعوب فيها لمنطق القوة الحربية. مشروع برنارد لويس نشرته مجلة وزارة الدفاع الأمريكية، وتم نشر أدق تفاصيله بخرائطه التقسيمية لدول الشرق الأوسط في كثير من المطبوعات. ولكثرة ما ركز لويس في بحوثه وكتاباته على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اعتبرته صحيفة “وول ستريت جورنال” في مقال لها بأنه -وهو الرجل الذي بلغ التسعين حينها- المؤرخ البارز للشرق الأوسط. لم يكن غريباً أن يتحول الرجل لوحده إلى “مخزن تفكير” استخدمه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن (مثلما استخدمه قبله جورج بوش الأب) في حربه على الإرهاب وخططه تجاه المنطقة العربية، بل يمضي كثير من المحللين للجزم بأن برنارد هو صاحب فكرة مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، وأنه هو من زرعها في عقل الرئيس الأمريكي حينها، لتكون بالتالي تطبيقاً فعلياً لمشروعه التقسيمي الذي تقدم به للإدارة الأمريكية في عام 1983 وحظي بموافقة الكونغرس الأمريكي بالإجماع في جلسة سرية بعدها تم إدراج المشروع كأحد الخطط الاستراتيجية للإدارة الأمريكية للسنوات المقبلة. برنارد تحرك بجدية لوضع هذا المخطط بتكليف من “البنتاجون” بعد تصريحات واضحة ومباشرة لمستشار الأمن القومي الأمريكي زبجنيو بريجنسكي في عام 1980، قال فيها: “المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى تستطيع من خلالها تصحيح حدود سايكس بيكو”. الفكرة -كما أسلفنا- بنيت على أساس تفكيك مجموعة الدول العربية والإسلامية وتحويلها لكانتونات ودويلات تحكمها العرقية والمذهبية والطائفية، لكن مع اشتراط عدم الوقوع في أخطاء معسكر الحلفاء البريطانيين والفرنسيين في عام 1916، هنا نشير للاتفاق السري المفضوح “سايكس بيكو”، ولهذا الاشتراط (عدم تكرار ذات الأخطاء) بُعد آخر سنتطرق له في مقال قادم. لويس كان الرجل المناسب لوضع مشروع “الشرق الأوسط الجديد” قيد التنفيذ الفعلي وذلك بناء على مشروعه السابق الذي وضع في أدراج الكونجرس منذ عام 1983، مثل الخيار الأنسب لضلوعه في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتي ألف فيهما أكثر من عشرين كتاباً، إضافة لمشاعر الكراهية التي يكنها لهذه الشعوب باعتباره صهيوني الانتماء يرى في ضمان مصالح إسرائيل الأولوية القصوى التي تأتي على حساب أي شيء آخر. للويس تصريحات خطيرة جداً لم يكن يخفيها بل كان يصرح بها في العلن، مثل مقابلته في العشرين من مايو من عام 2005 التي وصف فيها العرب والمسلمين بأنهم فوضويون لا يمكن تحضيرهم، وأنهم سوف يفاجؤون العالم بموجات إرهابية إذا تركوا هكذا، وأن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وأن على أمريكا لو قامت بهذا الدور أن تعمل على إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود أفعالهم. في تلك المقابلة تحديداً كشف برنارد عن ملامح خطته التي نرى اليوم أن “بوادرها” وجدت بيئة خصبة للتحقق، حينما قال نصاً: “إما أن نضعهم تحت سيادتنا أو ندعهم ليدمروا حضارتنا، ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديمقراطية، وخلال هذا الاستعمار الجديد (...) يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها واستثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية فيها”. بعد عام من هذا التصريح قام نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني آنذاك بتكريم لويس في مجلس الشؤون العالمية وقال بأن لويس جاء إلى واشنطن ليكون مستشاراً لوزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط. مراحل عديدة في مخطط برنارد لويس تم تنفيذها تحت المسمى المستحدث “الشرق الأوسط الجديد” الذي أعلنت عنه صراحة وزيرة الخارجية الأمريكية حينها كوندوليزا رايس في عام 2005، لكن الأخطر في الموضوع هو السعي لتقسيم الشرق الأوسط بشكل يخلق حالة شتات واسعة يمكن من خلالها اللعب في مقدرات المنطقة بسهولة. المخطط الذي جاء به لويس يقوم على التقسيم التالي الذي نورده باختصار شديد: تقسيم مصر إلى أربع دويلات، واحدة تحت النفوذ اليهودي (تذكروا الحلم الإسرائيلي من النيل إلى الفرات)، أخرى دولة مسيحية، وثالثة دولة النوبة، والأخيرة مصر الإسلامية. كما يقسم السودان لأربع دويلات، ورأينا في السنوات الأخيرة ما حصل في السودان وكيف انتهى به الحال للانقسام لنصفين. أما في دول المغرب العربي، فالتخطيط لتفكيك ليبيا والجزائر والمغرب لإقامة دويلات على امتدادهم للبربر ودويلة البوليساريو وما تبقى للمغرب والجزائر وتونس وليبيا. الأخطر هو تقسيم برنارد لويس لشبه الجزيرة العربية والخليج، إذ بحسب خرائط مخططه يتم إلغاء الكويت وقطر والبحرين وعمان واليمن والإمارات من الخارطة ومحو وجودها الدستوري لتتضمن شبه الجزيرة العربية والخليج ثلاث دويلات هي التي ذكرناها في بداية هذا المقال. بالنسبة للعراق، فينص المخطط على تقسيمه لثلاث دويلات على أسس عرقية ومذهبية، دويلة شيعية في الجنوب، وأخرى سنية حول بغداد، وثالثة كردية في الشمال. للتوثيق التاريخي نذكر هنا تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي كشرط لانسحاب القوات الأمريكية من العراق في سبتمبر 2007 على تقسيم العراق إلى الدويلات الثلاث مثلما أشار لها مخطط لويس برنارد. يمضي المخطط لتقسيم سوريا لأربع دويلات، علوية شيعية، وسنية في منطقتين، وأخرى للدروز، في حين قسم لبنان لثمانية كانتونات، سنة، مارون، علويين، فلسطينيين، كتائبيين شيعة ومسيح، دروز، مسيحيين تحت النفوذ الإسرائيلي بالإضافة لتدويل بيروت. وبنفس الأسلوب يتم تقسيم إيران وباكستان وأفغانستان لعشر دويلات عرقية ضعيفة، في حين ينتزع جزء من تركيا ليضم للدولة الكردية، بينما يفتت اليمن وتعتبر أراضيه من دويلة الحجاز. أخيراً تتم تصفية الأردن ونقل السلطة للفلسطينيين في حين يتم ابتلاع فلسطين بالكامل والتمهيد لإقامة إسرائيل الكبرى. طبعاً هذا التقسيم لم يحصل بالكامل، ولا حتى بنسب متقدمة مؤثرة، خاصة وأنه وضع موضع التنفيذ بعد 22 عاماً من تقديمه للكونجرس، عقدين من الزمان تغير فيهما الكثير، لكن رغم ذلك فإن كثيراً من السياسات التي تمت وشهدنا تأثيراتها في المنطقة تؤكد بأن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” ليس إلا صياغة مقننة لمشروع لويس برنارد لتغيير شكل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تحديداً تفتيت الدول العربية والإسلامية. قراءة التاريخ مسألة مهمة، وقراءة ما بين السطور أكثر أهمية، إذ بربط كل هذه الأمور يمكن الوصول لحقائق خطيرة ترتبط بمصائر دول وشعوب ويفهم منها كثير مما يحصل الآن. رغم أن لبعض ثورات الربيع العربي مبرراتها، ونعني الثورات الحقيقية لا الزائفة، لكن المسألة أكبر بكثير من أن تكون “مجرد” محفزات لقوى داخلية تبني حراكها على آمال دحر الاستبداد وتحقيق الديمقراطية. المسألة أخطر، والمخططات أهدافها الحقيقية أكبر.