إن إحدى المفارقات الملفتة للنظر في الأحداث المؤلمة التي عصفت بالبلاد في العام الماضي، تتمثل، في رأيي، بأنه يصعب تحقيق المصالحة والمصارحة الوطنية إذا كانت الذاكرة لاتزال مشبعةً بذكرياتٍ موجعةٍ، وإذا كانت تداعيات الأحداث شاهداً حياً على حيويتها ومحوريتها في التاريخ السياسي الوطني من جهة، وأثرها العميق في الوجدان الشعبي، من جهة أخرى. إن إحدى إشكاليات الذاكرة البشرية تكمن في أن الحدث نفسه يستثير ذكريات متضاربة لدى الأشخاص الذين شاء القدر أن يصبحوا بمثابة شهود عيان له، وتزداد هذه الذكريات تنوّعاً وتبايناً كلما كان الحدث المرئي بالعين المجرّدة أكثر قساوةً وبشاعةً، وكلما كانت الوقائع المصاحبة له أكثر إيلاماً ووقعاً على النفس، فإذا صادف أن رأى شخص ما مثلاً حادثاً مرورياً يقع أمام بصره مباشرةً، فقد لا يلتفت بالضرورة إلى التفاصيل الصغيرة، لأن الحدث لم ينطبع في ذاكرته على نحوٍ يدفعه نحو استعادة حيثياته، ربما بسبب تفاهته أو عدم أهميته من منظوره الشخصي باعتباره حدثاً عادياً يتكرّر يومياً. لكن إذا تمخّض ذلك الحدث ذاته عن وفاة أحد الأبرياء من المشاة أو العابرين العشوائيين، فإن الأمر يختلف تماماً، لأن الدماغ سوف يرصد الحدث باعتباره استثنائياً للغاية، ومن ثم فإن الذاكرة ستشتغل باتجاه تقييمه بصورةٍ موضوعيةٍ ما أمكن، على اعتبار أن الجهات المسؤولة تنشد تحقيق العدالة بالنسبة للجاني والمجني عليه، لكن هذا التقييم سرعان ما سيصطدم بالعواطف والانفعالات، كأن يتأثّر الشاهد بدموع الأم الثكلى أو الأب المكلوم، ويلقي اللوم على السائق الذي تسبّب في الحادث، ويحاول أن يثبت عليه تهمة القتل الخطأ بسبب الإهمال، حتى لو كانت الوقائع المادية على الأرض تشير إلى خلاف ذلك. أتصوّر أن هذه النقطة بالذات، وأعني بها مخاتلة الذاكرة البشرية في تقييمها للحدث ذاته، هي التي تجعل المصالحة أمراً عسيراً، وهذا يعني أن تقييم المرء لأحداث فبراير من العام المنصرم سوف يكون مختلفاً باختلاف تصوراته المسبقة عن الحدث، ومدى تأثير الحدث في وجدانه وضميره، ومن هنا الحاجة الماسة للتواصل والتحاور بشأن المخارج الممكنة للأزمة الراهنة حتى يستطيع الناس أن يكونوا أكثر صراحة، وتكون ذاكرتهم نعمةً لهم وليس نقمةً عليهم