بعد تحرر البلدان العربية وانتهاء عصر الاستعمار، كان لابد للغرب أن يضمن بقاء نفوذه في المنطقة.

ناهيكم عن استراتيجية “فرق تسد” الشهيرة، فإن الأسلوب الذي تم اتباعه -ووضح جلياً خلال السنوات السابقة- تمثل عبر “نزعة التدخل” الدائمة في الشؤون الداخلية لهذه الدول كخطة أولية، تعقبها الخطة الثانية حينما يتعثر تنفيذ الخطة الأولى متمثلة بعملية “تصدير الفوضى”.

رحيل المستعمر الغربي لم يكن عملية تمت هكذا كيفما اتفق، أو فرضتها نضالات الشعوب العربية فقط، بل كانت إضافة للمسألة الأخيرة مبنية على التفكير المستقبلي لهذه القوى، باعتبار أن فكرة الاستعمار خلال العصر الحديث ستتعدى عملية فرض السيطرة على الحدود والأراضي، فالاستعمار “الجديد” في منظوره الأشمل يستهدف أشياء أكثر وأهم أولها غسل عقول البشر واللعب في أفكارهم وولاءاتهم بالتالي لست ملزماً بإيجاد موقع فيزيائي لك على الأرض فالتواجد الافتراضي يكفل كل ذلك.

خرجت القوى الغربية بعد أن أمنت لها مواقع في تلك البلدان، سواء عبر اتفاقيات تعاون أو وصاية من نوع اقتصادي أو تصدير للخبرات والعقول، مع استثمار مسألة القنصليات والسفارات لتضاف إلى مهامها الدبلوماسية المعتادة مهام مرتبطة بخطتي “التدخل والتصدير”.

ولأن الشعوب العربية وصلت لمرحلة متقدمة بخصوص “الإيمان بالأجنبي” وأصبحت عقدة “الرجل الأبيض” عقدة ملازمة لها، فإنها هي من مهدت الأرضية المناسبة لما يحصل اليوم.

تخيلوا بأن كثيراً من الدول العربية ومن ضمنها البحرين هي منبع للنفط الذي يسيل لعاب الغرب له، لكن رغم ذلك يتم التعامل مع الدول النفطية على أنها “حسابات توفير بنكية” وكأن المخزون النفطي مملوك للغرب وما العرب إلا أوصياء عليه.

هذه الوضعية تم الوصول لها بطريقة ذكية وبناء على تراكمات عمل لسنين، فتكرار سيناريو قطع النفط الذي قام به المغفور له بإذن الله الملك فيصل مسألة تؤرق الغرب، بالتالي وضعت الخطط لتجنب التعرض لنفس الموقف مهما كانت المواقف الغربية من القضايا العربية.

عملية “التربيط الاقتصادي” التي قامت بها الدول الغربية مع الدول العربية وضعت قيوداً أيضاً على الأخيرة بحيث باتت سياساتها مرهونة بمواقف الغرب، وحتى من يتفرد في موقفه ورأيه لا ينجح إلا إن كان كياناً ذا نفوذ وقوة ويمتلك الأموال والاستثمارات التي عبر وقفها قد تزلزل كيان قوى الغرب، وهذا واقع لا ينكر، باعتبار أن السياسة لا تعترف بـ«صداقات دائمة” بل بـ«مصالح دائمة”.

المقدمات هذه هي التي تقود للمراحل الأخرى التي تبدأ بعملية التدخل السافر في شؤون الدول الداخلية، وهي مسألة لوحظت في الدول العربية التي شهدت تغييرات العام الماضي، بل لوحظت لدينا هنا في البحرين بحيث باتت سفارات بعض الدول الغربية تعمل وكأنها أحزاب سياسية أو مجموعات ضغط دولية دون أي احترام لسيادة البحرين.

حينما تترك أي دولة الحبل على الغارب وتسمح للسفارات الغربية بالتحول لمكاتب “خدمات إعلامية” و«استشارات سياسية” فإن عملية التدخل الغربي تصل لأقصى مدى، وعليه تتحول تلك الدولة إلى ساحة لعب لهذه الدول تفعل فيها ما تشاء، تنشئ طوابير خامسة، تدعم أطرافاً على أخرى بحسب “حسبات المصلحة المتوقعة”، إلى خلاف ذلك من أمور. وهنا عليكم أن تعلموا بأن أي خطوة تقوم بها هذه السفارات مبنية أساساً على ما يسمى بـ«دراسات الجدوى” إذ لا تحرك بدون دراسة مسبقة لإمكانية نجاحه والمكاسب المتوقعة من ورائه.

كخطوة أخرى موازية ويمكن اعتبارها خطوة لاحقة في حال فشل عملية “التدخل”، يتحول التركيز إلى مسألة “تصدير الفوضى”، بحيث يكون التخطيط خارجياً ويترك التنفيذ على العناصر التي تم احتضانها وتهيئتها من الداخل، والأهم كمحصلة بأن الدولة المعنية ستُدخل الطرف المعني بهذا “التصدير” أخيراً في العملية باعتباره “طرف التلاقي” وصاحب “القوة الضاغطة”، وهذا يحصل للأسف. لاحظوا معي بأننا اليوم نتحدث عن السفير الأمريكي والسفارة وواشنطن وكأنهم عناصر فاعلة موجودة على الأرض وتقوم بحراك سياسي ملموس، أو تتحول للعب دور “الوسيط”.

عملية التصدي لهذه التدخلات، أو مكافحة “تصدير الفوضى” لا تتم عبر بيانات انفعالية، ولا عبر مطالبات غير مبنية على آليات عمل، فمواجهة طرف لديه خبرته على امتداد عقود في عملية التدخل في مصائر الدول والشعوب مسألة ليست سهلة أبداً، هم يمتلكون ألف طريقة وطريقة للتلوي والتلون وتغيير الوجوه والأقنعة بصورة دبلوماسية.

لأنها عملية مبنية على أساسات أولية كـ«التحييد السياسي” و«تربيط المصالح” فإن التصدي للتدخلات وتصدير الفوضى تحتاج لقوة وصرامة ودراية بما ستترتب عليه هذه المسألة.

كثير من الدول تقف في وجه القوى الغربية التي تمارس “الاستعمار الحديث” بمختلف تلاوينه، هذه الدول تبني مواقفها على أساس رفض التدخلات الخارجية في شؤونها الخارجية، وتتحدث من منطلق حقها المطلق في فرض السيادة التامة على كيانها، وتنطلق في كل ذلك باعتبار أنها دولة مستقلة حرة.

يبقى الإيمان بأن ما أجبر المستعمر على الخروج هو سماعه لصوت الشعب الحر وهو يصرح بالرفض لأية تدخلات خارجية في شؤونه الداخلية، لكن حينما يختفي هذا الصوت فإن “حلم العودة” يعود من جديد بالضرورة، حتى لو كان بشكل مختلف.

الضعيف صوته يضيع في عالم يتحدث لغة القوة وتحركه المصالح، بينما القوي هو القادر على ردع أي طامع يدنو ناحيته.