الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العالمية الأولى، وسيدة الساحة الدولية المطلقة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لا تلعب على الحبلين على الإطلاق، ليس لأنها سيدة النزاهة والشفافية وصاحبة المصداقية العالية، بل لأنها في الحقيقة أفضل من يلعب على عشرات الحبال في وقت واحد! لسنا نتجنى على الدولة الحليفة الصديقة (هكذا يقال)، لكن بإمكان أي إنسان ذا ثقافة سياسية سطحية أن يكتشف وبسهولة الاستراتيجية السياسية “الخطيرة” التي تتبعها الولايات المتحدة في إدارتها للأمور والكيفية التي تتعامل فيها مع الدول. سياسة شعارها “اللاوضوح”، ولغة مليئة بـ “التناقضات”، ومواقف واضحة “التقلبات”، وعليه فإنه مخطئ تماماً من يُعول تعويلاً كاملاً على الأمريكان للتعامل معه بوضوح تام، هذا إن استثنينا إسرائيل بالطبع، رغم أن وضع هذه الأخيرة قد يكون غريباً لمن لا يعرف أصل الحكاية. إسرائيل ورغم كونها “بذرة شر” زرعتها بريطانيا في أرض فلسطين المحتلة بسبب وعد “بلفور”، إلا أن الرعاية الشاملة انتقلت من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولكم أن تسألوا لماذا؟! والجواب هنا بسيط جداً. فقط ابحثوا عن حقيقة من يتحكم في الداخل الأمريكي، ومن بيده تحريك الاقتصاد صعوداً ونزولاً، ومن يمتلك قبضة حديدية على الإعلام الأمريكي تطوعه كيفما يشاء، بل من لديه المقدرة على إنجاح أي شخصية في أي محفل انتخابي، أو العكس إسقاطها بشكل مدوي. عموماً، واشنطن لا تهمها الحبال التي تلعب عليها سواء قل عددها أو زاد، بل تهمها مصالحها وضمان ديمومتها ولا شيء آخر. شعارها الشهير “لا صداقة دائمة، بل مصلحة دائمة”. إن كنا نتحدث عن البحرين، فلكم أن تحسبوا كم تصريحاً خرج به البيت الأبيض أو مسؤولوه مؤيدين لحليفتهم الخليجية، ومشيدين بالإصلاحات الحاصلة فيها، وبتعاملها مع الأزمة ومخطط الانقلاب الطائفي، في المقابل كم تصريحاً سياقه ومضمونه يناقض تصريحات الدعم والتأييد جملة وتفصيلاً. رغم أن كثيراً من الأمور واضحة وضوح الشمس بالنسبة لما حصل في البحرين، إلا أن الأمريكان يطالعوننا أحياناً بتصريحات تبعث على الدهشة والتساؤل، إذ هل يعقل بأن دولة عظمى تمتلك أقوى جهاز استخباراتي في العالم يمكن خداعها وتسويق الكذب عليها، أو يمكن أن تكون جاهلةً بحقيقة الأمور؟! سياسة واشنطن تعتمد على ألا تمنح أي طرف ما يريده بشكل واضح ونهائي، بحيث لا توصله لمرحلة الرضا التام والتعويل المطلق على وجود تأييد من البيت الأبيض، بل تتعمد إدخال أي طرف -بغض النظر عمن يكون- في حالة “قلق دائم” و“توجس” من ردات فعل “عكسية” لها تداعيات وتأثيرات سلبية. الجولة الأخيرة لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون لمصر والأراضي الفلسطينية المحتلة يمكن أن تكون أكبر مثال على أسلوب اللعب على أكثر من حبل، إذ الجلوس مع الرئيس المصري وحثه على الإسراع في تشكيل الحكومة، ثم الجلوس مع قادة المجلس العسكري والبحث معهم في شؤون داخلية صرفة، بعدها الانتقال لاجتماعات في إسرائيل تتسرب منها معلومات عن تأكيد كلينتون لقادة الاحتلال بأن مصر مأمون جانبها رغم صعود الإخوان المسلمين لسدة الحكم بسبب حجم المشاكل الداخلية والتعديلات والتصليحات المفترض أن يقوم بها الرئيس مرسي، كلها تكشف أسلوب اللعب على الحبال. طبعاً الكلام الأمريكي مُختلف في مصر عنه في إسرائيل، إذ مازالت الأولى على حالها بعد الثانية في التحصل على ثاني أكبر دعم مالي سنوي من الولايات المتحدة يفوق الـ 200 مليون دولار. الموقف الأمريكي في سوريا لا يتعدى الكلام فقط، في حين كان في العراق مختلفاً تماماً. الضغط الذي نعلم تماماً كيف يتفنن الأمريكان في ممارسته لا نراه يجدي نفعاً في سبيل إنقاذ أرواح مئات الآلاف من الأبرياء الذين “نحرهم” نظام بشار الأسد ومازال مستمراً في هدر دمائهم. أين الجبروت الأمريكي، وأين الخطابات الصارمة التي توحي لك بأن أساطيل بحريةً سترسل على الفور وأسراباً من الطائرات المقاتلة ستتجه حالاً لإنقاذ البشر الذين يعانون من ديكتاتورية حتى الأعمى يراها؟! يجب أن يتوقف الناس عند بعض الأمور ويتمعنوا فيها، ألم تتساءلوا يوماً لماذا تضغط واشنطن على كل دولة تعتزم امتلاك سلاح نووي وتحاربها حتى على مستوى النية لا الفعل، في حين تمتلك هي نفسها السلاح النووي؟! أليس هذا تناقضاً وضحكاً على الذقون وسعي للتفرد بالقوة المطلقة؟! تقول واشنطن بأنها تؤيد حرية الشعوب ووحدتها، تورد ثوابت التطورات الديمقراطية هذه كأدبيات وشعارات فقط، في حين هي أول من يحارب وحدة الدول وشعوبها، ولكم في استهدافها الاتحاد الأوروبي أبلغ مثال، خاصة حينما تكرس واشنطن نفسها لتقويض استقلالية الاتحاد عنها في جانب بناء القدرات العسكرية الذاتية. واشنطن تحارب أي دولة أو تجمع لدول يسعى لتطوير قدراته العسكرية، في حين هي نفسها تسيطر سيطرة كاملة على الفضاء وكأنها تملكه، بل تفرض هيمنتها على مناطق القتال الجوي وأعماق البحار (المياه الزرقاء)، بل تتعامل وكأنها تمتلك “المناطق العمومية” التي لا تخضع لسلطة دولة محددة. ألم تكن هي الواقفة مع نظام صدام حسين في حربه ضد إيران، ثم استغلت احتلاله الكويت لترسخ أقدامها في المنطقة، ثم اخترعت “خزعبلات” أسلحة الدمار الشامل المخبأة لتغزو العراق وتُسقط صدام وتضع يدها على الآبار النفطية؟! والآن تُسلم العراق هدية لعدوتها المفترضة إيران، التي تصف بدورها الولايات المتحدة على أنها “الشيطان الأكبر”! ألم تكن واشنطن نفسها الداعمة لأسامة بن لادن والأفغان في الحرب الأفغانية السوفيتية فقط من أجل تقويض شوكة الاتحاد السوفيتي؟! ألم تكن هي أصلاً صانعة أسامة بن لادن، والآن هي قاتلته؟! تريدون المزيد؟! هناك المزيد، فالحبال التي تلعب عليها الإدارة الأمريكية لا تنتهي، بل هي تزيد كل يوم، تزيد مع كل فرصة متاحة لفرض المزيد من الهيمنة العالمية وبما يضمن زيادة مكاسبها وتعزيز مصالحها.