في كل مرة تحاول فيها “إسرائيل” جر قطاع غزة إلى مواجهة عسكرية شاملة، كما حدث في الأيام الأخيرة، يتكرر المشهد نفسه، سقوط عدد من الشهداء، ورد من المقاومة فثبات قدرتها على الرد، كأن كل طرف يريد أن يوصل رسالة واضحة، المقاومة تؤكد أن خيار المقاومة مازال قائماً، ولديها القدرة على الرد، ولكنها في الوقت ذاته تريد التهدئة، و«إسرائيل” من جانبها، وإن كانت معنية بالتهدئة، لكنها تريد توجيه ضربة قوية لقدرات المقاومة التحتية. يعاد التساؤل؛ وهل من عدوان “إسرائيلي” جديد ينتظر غزة؟ وهل باتت غزة هي المدخل لحرب إقليمية جديدة طرفها الرئيس إيران، كما تؤكد على ذلك التصريحات التي تخرج من “إسرائيل” وتشير إلى أن الحرب على إيران باتت مسألة وقت؟ لقد سبق التصعيد “الإسرائيلي” الأخير حرب مصغرة بين المقاومة الفلسطينية قادتها حركة الجهاد وبقية عناصر المقاومة، دامت أربعة أيام أشبه بحرب مصغرة، وراح ضحيتها نحو 25 شهيداً وأكثر من 100 مصاب بعضهم إصاباتهم خطرة. وفي كل مرة يتكرر التساؤل، ما المطلوب من المقاومة؟ وما وظيفة المقاومة في غزة؟ وهل من المصلحة الوطنية أن تعود الحرب ثانية لقطاع غزة الذي مازال سكانه يعانون تداعيات وآثار الحرب الأخيرة؟ كل هذه التساؤلات تتردد على ألسنة الجميع حتى المواطن العادي الذي يعاني أزمة حياتية مركبة من نقص في الموارد وغلائها بما يفوق قدرته على شرائها، وانقطاع دائم للكهرباء، وفقر وبطالة تعطل قدرة شبابه. ويبقى السؤال المهم أين الانقسام من هذا العدوان؟ ولعل المفارقة التي تزامن فيها التصعيد الأخير، أنه جاء مع الانتخابات الرئاسية المصرية، وذهب البعض إلى الربط بين هذا التصعيد والانتخابات. وإن كانت هناك علاقة فلا بد من الإشارة إلى أن فوز الإخوان سينعكس على خيار المقاومة في غزة، فليس من مصلحة الإخوان خصوصاً أن تشتعل الحدود مع “إسرائيل” وأن يكون هناك عدوان لأنه سيضعهم في مأزق القرار، وفي الوقت ذاته مصر غير قادرة على خيار الحرب، وإذا ما تم العدوان سيكون الإخوان أمام خيار صد العدوان، وهنا يمكن أن توجه لمصر تهمة دعم الإرهاب، وقد يذهب الأمر إلى وصف مصر بأنها تدعم الأنشطة الإرهابية، كما تريد “إسرائيل”، وقد يتكرر النموذج الإيراني، وتفرض عقوبات وحصار على مصر تفقد الإخوان الحكم وهو الهدف الأسمى من أي هدف آخر. والخيار الثاني الصمت، وهذا سيضعهم في مأزق جديد ووصفهم بالمهادنة والخضوع للشروط الأمريكية وسيفقدهم مصداقيتهم ويخسرون كل شيء. إذاً الخيار الوسط هو عدم الذهاب لهذا العدوان، وهذا ما يفسر لنا المطالبة بالتهدئة. والسؤال ثانية لماذا هذه الجدلية العقيمة بين التهدئة والمقاومة؟، لا بد من الإشارة إلى عدد من العوامل الرئيسة التي تعد مدخلاً للإجابة عن العديد من التساؤلات. وأول هذه العوامل تحديد طبيعة العلاقة بين غزة و«إسرائيل”، وهذه العلاقة تقوم على معطيين، الأول منطق العداوة، والثاني المعضلة الأمنية. وهما يحددان منذ البداية أن خيار “إسرائيل” دائماً في التعامل مع غزة هو الخيار العسكري، الذي قد يأخذ أشكالاً متعددة، بعض صوره العدوان الأخير، وقد ينتهي بعدوان واسع أو حرب شاملة. والعامل الثاني أن طبيعة غزة وخصائصها الجغرافية والطبوغرافية والسكانية الكثيفة والمساحة الصغيرة تجعلها في مرمى السلاح “الإسرائيلي”، وهو ما قد يوقع ضحايا كثيرين. وعليه فإن غزة لا تصلح أن تكون أو تتحول إلى ثكنة عسكرية، بل تحتاج إلى رؤية تنموية وحضارية وسياسية تجعل منها أنموذجاً سياسياً ديمقراطياً للدولة الفلسطينية. والعامل الثالث يتعلق بالمقاومة وهو الخيار الذي تمثله غزة بوجود كل قوى المقاومة فيها، وهو ما يتناقض مع خيار المفاوضات والسلام الذي تمثله السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهو ما يعمق من منطق العداوة مع “إسرائيل”. وكذلك المطلوب عدم بعثرة هذه المقاومة، وينبغي أن يرتبط قرارها بإنهاء الاحتلال، وقد تحقق هذا في غزة، ويرتبط أيضاً بصد أي عدوان والدفاع عن غزة، لكن المقاومة ليست هي التهدئة، بمعنى ليست وظيفة المقاومة الرد على العدوان ثم الدخول في تهدئة، وليس معنى ذلك أن التهدئة مرفوضة، بل على العكس التهدئة مصلحة وطنية فلسطينية، تجنب الشعب الفلسطيني في غزة حرباً شاملة، لكن المقصود أن تكون التهدئة مبنية على أسس واضحة، وبضمانات إقليمية وحتى دولية، وإن كان هذا أمراً صعباً لأن التهدئة تبقى شفهية لفظية، ولا أحد يستطيع أن يضمن أي طرف، وكما يقال في السياسة تتراجع الالتزامات الأخلاقية لتفسح المجال لاعتبارات الأمن والقوة . إن المصلحة الوطنية الفلسطينية تفرض على الجميع إنهاء الانقسام من منطلق أن المقاومة كل لا يتجزأ، وأن المفاوضات والسلام أيضاً كل لا يتجزأ، وأن الخيارات الفلسطينية لا يمكن تجزئتها واختزالها، وأن ندرك أنه لا توجد أي دولة عربية أو إقليمية يمكن أن تحارب عن الفلسطينيين أو حتى عن القدس، ويبقى تفعيل القرار الفلسطيني وتحريره من المؤثرات الإقليمية والدولية، وأن يعيد الفلسطينيون قراءة أنفسهم وقراءة الصراع من جديد. ^ عن «الخليج الإماراتية»