من بين 5084 زائراً شاركوا في استفتاء للرأي قام به موقع “راديو روسيا اليوم”، الإلكتروني حول قراءتهم لمدلول “تحليقات الطائرات التركية قرب الحدود السورية”، كان هناك 26.26% اعتبروها “مقدمة لعملية عسكرية للناتو في سوريا”، في حين وجد فيها 58.79% أنها تدل على “استفزازات لجرّ سوريا إلى مواجهة عسكرية “، بينما رأت فئة أُخرى بلغت حصتها 8.81% أنها “مجرد مناورات اعتيادية”، ووجدت نسبة ضئيلة بلغت 6.14% أنها “أخطاء من جانب الطيارين”. الغالبية العظمى “حوالي 85%”، إذاً، ترجح الصدام العسكري، بين النظام وقوى خارجية.
أغفل ذلك المسح احتمالين آخرين ليسا بعيدين عن الخيارات الأربعة التي أوردهما: الأول هو احتمال إرسال قوات دولية بإشراف الأمم المتحدة، مسنودة بقوات من الدول العربية تحت إمرة جامعة الدول العربية، تحت مبرر التدخل من أجل إعادة السلام إلى ربوع سوريا، والثاني تدخل إيراني سافر لحماية النظام السوري الذي لايزال يتمتع بالشرعية الدولية.
أول عامل يدفعنا لإضافة هذين الاحتمالين، هو تلك الأحداث التي رافقت تحليق تلك الطائرات وإسقاط واحدة منها على يد القوات المسلحة السورية، وهو الأهم من بينها، كانت دعوة “الوسيط الدولي كوفي عنان في بيان إلى اجتماع على مستوى وزراء الخارجية في جنيف للتباحث حول المسألة السورية والاتفاق على مبادئ (الانتقال السياسي بقيادة سوريا)، وتشارك فيه الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، والصين، وروسيا”. الملفت للنظر هنا، أنه بينما تم توجيه الدعوة -إضافة إلى الدول التي جئنا على ذكرها- إلى قطر والعراق وتركيا، استثنيت منها كل من إيران والسعودية. فليس هناك ما يشرح تلك الدعوة، وذاك الاستبعاد، سوى حرص المشاركين في ذلك الاجتماع على أن يكون جدول أعماله محصوراً في الشأن السوري المباشر، دون التفرع ومناقشة قضايا أخرى، مصدرها خلافات إقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وجدت في الساحة السورية مكاناً لتصفية حساباتها الخاصة بها.
إذا ما عُقد ذلك الاجتماع، وهو أمر متوقع، فإن نتائجه -سواء نجحت مساعيه أم فشلت- تقود إلى تدويل القضية السورية. ففي حالة النجاح، وموافقة الأطراف كافة على الحلول التي سيتبناها، ليست هناك من قوة محلية أو دولية منفردة، قادرة على نقل قراراته إلى حيز التنفيذ. حينها لن يجد المجتمعون أمامهم من خيار آخر سوى التدويل، إما بشكل مباشر، باشتراك مجموعة من الدول، بغض النظر عن موافقة سوريا عليها أو رفضها لها، وإما بشكل غير مباشر من خلال مظلة الأمم المتحدة. في الحالتين ستكون المحصلة تدويل القضية السورية، وفي حال الفشل، لن تتردد دول “الناتو” من الإقدام على خطوة مشابهة لما قامت به في ليبيا.
فالطائرات التي حلقت لم تعد مجرد تركية، بل جلبت وراءها حلف “الناتو”، الذي اجتمع، لمناقشة الحادث، وخرج بمجموعة من القرارات السريّة التي لم يكشف النقاب عنها بعد، لكنها لن تخرج عن إطار السيناريو الليبي، بعد إضافة ما يلزمه من تحسينات تتلاءم والأوضاع السورية، التي في مقدمتها، متاخمتها لإسرائيل، وعلاقاتها الوثيقة بإيران. ذلك يقود إلى احتمال تدخل “الناتو”، لحسم الأمور في سوريا لصالح المعسكر المناهض للحلف السوري - الإيراني. يعزز من ترشيحنا لهذا الاحتمال، دعوة دولة صغيرة مثل قطر لاجتماع جنيف، واستبعاد دولتين، مهمتين على المستوى الإقليمي هما إيران والسعودية، من قائمة المدعوّين.
الخيار الثاني وهو التدخل العسكري الإيراني، المعلن أو غير المباشر، والمطلوب هنا رؤية الوضع السوري من زاوية الاحتمالات المتوقعة المبنية على الحقائق القائمة على الأرض، لا التمنيات العاطفية المملوءة بها القلوب. فاختراق الطائرات التركية للأجواء السورية، واعتراف تركيا، بغض النظر عن التبريرات اللوجستية والفنية، بذلك، يشير إلى أن في ذلك تحذيراً لإيران أكثر منه اختباراً للقوة السورية التي أنهكتها اليوم المعارك الداخلية، التي من الطبيعي أنها “إيران” لن تقف مكتوفة الأيدي بانتظار ضربة مباشرة موجعة لها في عقر دارها. حينها لن تتردد إسرائيل في الإقدام على ضربة وقائية، الأمر الذي يفتح المنطقة، وليس سوريا فحسب أمام مشروع تدويل خطير.
إذاً في الحالتين، سواء كان المقصود إزاحة نظام حافظ الأسد فقط، أو إضعاف الحلف الإقليمي غير المعلن الذي يشكل هو إحدى ركائزه في المنطقة، ستكون المحصلة النهائية تدويل القضية السورية، بعد تهدئة جبهاتها العسكرية الداخلية، التي أنهكت قوى المتصارعين فيها معارك ضارية مستمرة لما يزيد على النصف عام، لكنها غير قادرة على حسم الصراع لصالح طرف على طرف آخر.
ما يدعو الدول الغربية، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة، إلى تدويل القضية السورية ثلاثة عوامل رئيسة هي:
1. فشل القوى المناهضة للنظام، بأجنحتها السياسية والعسكرية المختلفة من حسم الصراع لصالحها مجتمعة أو لصالح طرف واحد فيها، وعدم بروز أي منها من بين صفوفها، كما حصل في ليبيا، ينادي بضرورة الاستعانة بالقوى الخارجية. هذا الفشل، وعدم البروز، يعود إلى تعقيدات الساحة السورية أولاً، وغياب قوة قائدة قادرة على أخذ زمام المبادرة، وتقدم الصفوف وفرض برنامجها للخلاص الوطني ثانياً، وتضارب مصالح القوى الإقليمية، وفي مقدمتها: إيران وتركيا والسعودية وإسرائيل بشكل حاد ثالثاً.
2. نتائج انتخابات الرئاسة المصرية، ووصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم، فبغض النظر عن العلاقات التي ستنشأ بين الإخوان والمجلس العسكري على المستوى الداخلي، والإخوان والغرب على المستوى الخارجي، يبقى وصول الإخوان إلى السلطة في دولة ذات ثقل استراتيجي في الشرق الأوسط مثل مصر، يدفع الغرب إلى أخذ الحيطة، ووضع صمامات الأمان كي لا تتكرر التجربة المصرية، بنسخة سورية في دمشق. فليس هناك من لا يدرك أن الإخوان المسلمين في سوريا أيضاً، بخلاف الجهاز العسكري، هم الأكثر تنظيماً، والأشد حضوراً في ساحة الصراع السورية، ومن ثم، فهناك تخوف لابد من أن يستبقه الغرب، للحيلولة دون سقوط النظام السوري ثمرة ناضجة في أحضان الإخوان المسلمين.
3. نجاح إيران في كسر طوق الحصار الذي حاول الغرب أن يفرضه على النظام هناك، ليس من أجل إسقاطه، بقدر ما كان الهدف منه إضعافه، أدى ذلك إلى تحرك إيراني نجح في تشكيل جبهة عالمية تخفف من ضغوطات ذلك الحصار، وتفسح أمام طهران مجالاً كي تمارس دوراً، وإن كان محدوداً في رسم معالم خارطة الشرق الأوسط الجديد. وليست هناك من خطوة قادرة على تقزيم هذا الدور، من حرمان طهران من أهم نظام حليف لها في المنطقة وهو النظام السوري. أمام هذه الصورة لن تجد طهران وسيلة للدفاع، أفضل من البدء في الهجوم، الأمر الذي يعرّض منطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه التحديد الخليج العربي، إلى اضطرابات ربما يقود البعض منها لحسم الصراع لصالح الطرف الإيراني، وهو أمر لا تستطيع الأطراف العالمية، بما فيها روسيا أن تقبل به، لكنها لا تستطيع أن تمنع دول “الناتو” من السير في طريق تدويل القضية السورية، درءاً لهذا الاحتمال. إذاً، كل الطرق السالكة تقود إلى تدويل القضية السورية، وهو مصير يشكل بادرة خطيرة ليس على الأوضاع الراهنة في سوريا فحسب، وإنما على معالم خارطة الشرق الأوسط السياسية في المستقبل المنظور
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90