بعض الأقلام الصحافية التي يستفّزها الخطاب الوسطي المعتدل في تحليل الأحداث المؤسفة التي عصفت بالبلاد تزعم أن الكتّاب الذين يدفعون باتجاه اعتماد الرصانة والحكمة أسلوباً لمعالجة المحنة، والخروج من عنق الزجاجة، إن جاز التعبير، بأقل نسبة ممكنة من الخسائر، وأكبر قدر من الأرباح لصالح الوطن والمجتمع، هم أناس يتم “توجيههم والتحكّم فيهم من قبل جهات وأطراف تريد الهيمنة والاستحواذ على الحياة بكل تفاصيلها”، حيث إنهم ليسوا سوى “صندوق حاجيّات يتم ملؤه وإفراغه بحسب الطلب والحاجة”، لأن “عقولهم واختياراتهم قد اختُطفت”، وأصبحوا ضحيّة “التلقيم والتلقين”، فصاروا يبعثون على “الشفقة والتندّر والسخرية”. ويبدو أن هذه الحزمة من الاتهامات الموجّهة جزافاً لأصحاب العقول المستنيرة التي تسعى جاهدةً لسّد أبواب الاصطفاف الطائفي المقيت، نقول إن هذه الحزمة معدّة سلفاً لدى الذين يدّعون أنهم “مستقلون في تفكيرهم” عن التأثيرات الخارجية، وكذلك لدى الأفراد الذين يتصوّرون أن مجرّد محاولة التفكير “خارج الصندوق”، أي بمعزل عن الرؤية المذهبية الضيّقة، يمثل تعبيراً صارخاً “لارتهان العقول والضمائر للأطراف الساعية إلى تأبيد حالة التأزيم والاحتقان” في البلاد. أتصوّر أن المشكلة الأساسية في هذا النمط من التفكير الذي تجسِّده مقولة “من ليس معنا فهو ضدنا” أنه لا يستطيع أن يتخيّل وجود نمط مغاير من الخطاب السياسي يحاول رؤية المشهد بأكمله قبل الحكم عليه استناداً فقط إلى بعض الأحداث واللقطات التي تم انتقاؤها بعناية بحيث تتفق مع طبيعة الأحكام الجاهزة مسبقاً، وتصّب في مجراها، ولا تحيد عنها قيد أنملة. إن أحداً لا ينكر أن أحداث فبراير شكلّت محطة هامة في التاريخ السياسي للبلاد، لكن الخلاف هنا يكمن في كيفية وضع هذه الأحداث في سياقها الصحيح، دون الحّط من أهميتها أو تصوير القوى المشتركة فيها بأنها هي وحدها المؤهّلة تماماً لتحديد كيف يمكن تطبيق “المساواة والعدالة الاجتماعية” بين المواطنين، وتلبية “حقوقهم المشروعة”، أما الآخرون الذين يرون خلاف ذلك فهم “يرفضون الديمقراطية والحرية والمساواة”، ويؤخِّرون ساعة “النصر المحتوم”، لذا فإن فضحهم والتصدِّي لأفكارهم أصبح ضرورةً كي تظل عقول البسطاء رهينةً لدى القوى المذهبيّة الموتورة!