الحديث عن أزمة الخطاب المعارض، والذي من مظاهره المؤلمة استباحة “الكذب” في بعض الأحيان في معركته من أجل السلطة، يفضي إلى تقرير فشل هذا الخطاب على صعيد بناء ذاته المعقولية وعلى صعيد مصداقيته الداخلية والخارجية على حد سواء، ومن بين تلك المظاهر يمكن رصد النقاط التالية:
أولاً: صناعة الأوهام والفبركة الدعائية:
- لقد أتاح الاستبداد في مرحلة من المراحل السيطرة شبه الكاملة على المعلومات وعلى الأفكار والاتجاهات، إلا أن الثورة الاتصالية قد هدمت هذا الاحتكار ووضعت له حداً، وأصبحت كل القوى في المجتمع تتنافس في السيطرة على الاتجاهات وعلى كسب الرأي العام في كافة المعارك، بما في ذلك معركة الديمقراطية والسلطة.
ومثلما كان الاستبداد يصنع مادته الإعلامية “بما في ذلك الفبركة” على حساب الحقيقة والقيم، مثلما أشرنا في مقال سابق، فإن الذين يقاتلون الاستبداد اليوم يستفيدون هم أيضاً من تقنيات الاتصال والتواصل ليدخلوا على خط الفبركة والتزييف في إعادة إنتاج انتهاك القيم: فبركة الرغبات والاتجاهات التي يحركونها في معركتهم في مواجهة السلطة ومن أجل السيطرة على السلطة، ولذلك أصبح من الوارد تورط رموز للمعارضة المصنفة “ديمقراطية” في الكذب والتزييف الفاضحين “عيني عينك”.. في حين كان يفترض بالخطاب المعارض ألا يكون مشاركاً في معركة الفبركة والمشاركة في سلب الناس وعيهم، لأن معركته الحقيقية هي ضد تزييف وعي الناس، إلا أن الممارسة العملية على الأرض بينت في كثير من الأحيان أن الخطاب المعارض قد استخدم هو الآخر صناعة “فبركة الأوهام والأحلام” للتأثير على الناس وعلى اتجاهات الرأي العام، من خلال استخدام الدعاية التي تبيع كل شيء للجميع وبالتساوي، بما في ذلك بيع الوهم وصناعة الرغبات والاتجاهات، والعمل على سلب الناس وعيهم الوطني وحسهم الإنساني ومنحهم فرصة للتوحش والتجرد من التسامح والمحبة والعقلانية وهي الصفات الأكثر التصاقاً بإنسانية الإنسان، من خلال تصوير “السلطة” على أنها العدو والوحش والمستعمر والفساد المطلق، وبناء عالم بديل من الأوهام والاغتراب، واستخدام الصورة والكلمة كنظام جديد لاستعباد الإنسان والذي تعجز الحرية عن مواجهته اليوم حيث خرج عن السيطرة منذ اللحظة التي أصبح كل فرد بإمكانه أن يصنع مادته الإعلامية ويروجها على أنها الحقيقة، هذا النظام الجديد قوته الأساسية في أنه يراهن على الحرية نفسها ويستخدمها في إطار أكبر نظام لفبركة الأحلام والخدع وبيع والأوهام.
المظهر الثاني: الولاء للآخر:
المظهر الثاني من الإشكالية يتعلق بما يمكن أن نسميه بالولاء للآخر: فإذا كان صحيحاً أننا نعيش عصر العولمة والسماوات المفتوحة والتي أسهمت في محو الفواصل ودمج الداخل بالخارج على أصعدة السياسة والاقتصاد والثقافة ذاتها، فإن الحقيقة هنا أنه لا يمكن الحديث بشكل موضوعي عن النتائج النهائية لما أفضت إليه هذه العولمة، ولكن ما يمكن رصده حالياً هو أنها قد خلقت إمكانات واسعة لسيادة الولاء للآخر، وهيمنة الفكر التبعي، واختزال الذات إلى عنصر هامشي، واستبعاد المكونات المحلية القابلة للتطور والنمو، وخلخلة البناء الاجتماعي بصورة فوضوية، وقد أفضى ذلك إلى انهيارات متعاقبة في البنى الثقافية الأصلية على الصعيد المحلي، فما كانت تراه المعارضات في السابق تبعية “رسمية” للغرب على الصعيدين العسكري والاقتصادي، أصبحت اليوم تنظّر له وترحب به على الصعيدين السياسي والإعلامي من خلال حلف جديد غير خافٍ، في نوع من العلاقة الملتبسة التي يشوبها الإغواء الأيديولوجي المجرد من شروطه التاريخية.
المظهر الثالث: إعادة إنتاج الاستبداد:
نرى أن بعض الأحزاب المعارضة -إن لم تكن أغلبها- والتي تشكل المطالبة بالديمقراطية والتجديد والإصلاح الأساس الرئيس لمعارضتها للسلطات القائمة، تقوم على احتكار السلطة الحزبية واعتماد مبدأ الشخصانية داخل مؤسستها الحزبية ومصادرة الرأي الآخر ومنع النقد الذاتي وغير الذاتي، وتقديس القيادات وتنزيهها وتأبيد قيادتها في بعض الحالات على الأقل، دون تجديد أو تغيير، فترى المعارضة تقع في الممارسات ذاتها التي تنتقدها في السلطة الموجودة وتعارضها فيها!.
المظهر الرابع: السلطة ولا شيء غير السلطة:
واقع الحال يتوجب أن تكون أهداف المعارضة -مهما كانت توجهاتها ومرجعياتها- مرتبطة بشكل عضوي بالمصالح العليا للبلاد. بل إن المعارضة يجب أن تتوخى هذه المصالح الوطنية دائماً في سلوكها، وأن ترتبط بمصالح البلاد العليا ومصالح الجماهير وأن تعبر عنها، بما يتطلب في جميع الأحوال دعم نظام الدولة ككيان من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو القانونية، بحيث لا يكون الهدف الأسمى لها هو الوصول إلى السلطة فقط، وأن يكون لها هذا الطموح وفق الدستور والقانون الوطني، ولكن لا يجوز أن يكون هدف معارضتها للسلطة محصوراً في هذا الغرض فقط. وإلا لأصبحنا أمام منافسة على الحكم فقط بعيداً عن خدمة المصالح العامة للمواطنين والمصلحة العامة للوطن.