أعادت بعض المداخلات الحرة في وجه “الزعماء المقدسين” الذين لا يرد عليهم كلام، ولا يقال في حضرتهم إلا: لبيك.. لبيك!!، أعادت مثل هذه المداخلات الجريئة، بما تضمنته من أسئلة حية ومشروعة في وجه هؤلاء الزعماء مباشرة، الأمل في قدرة الناس على مغادرة ما فرض عليهم من حالة استلاب جماعي، في ضوء قوى القهر الدينية والطائفية التي تجرم مساءلة القادة الدينيين- الطائفيين، فما بالك بالخروج عنهم.
قوة طارحي الأسئلة الحية لا تتأتى من قدرتهم على فبركة الفتاوى الجاهزة، ولا في استخدام المولوتوف، ولا الأسياخ، ولا في حرق الإطارات، وسد الطريق أمام العابرين، ولا في فبركة البيانات والشعارات عبر الفضائيات، قوتهم تتمثل في طرح السؤال الصادق المخلص الحي الذي يلامس الأزمة في إشكالاتها الحقيقية مهما كانت موجعة.
ذكرتني أسئلة ذلك الرجل الشجاع في السنابس الذي لخص أزمة البحرين الراهنة وجملة الأخطاء الفادحة، بل والجرائم التي ارتكبتها بعض قوى التأزيم الطائفية، ومن قبله أسئلة التحدي التي طرحها الصديق الكاتب الصحفي حسن عبدالله المدني في أكثر من مناسبة والتي بشر فيها بارتفاع أصوات الهمس في المجالس الرافضة للأخطاء في حق الوطن والناس، وبأن هذه الأصوات سوف تتحول إلى جهر، ومن ثمة إلى سيل يجرف قداسة المقدسين لأنفسهم. ذكرني ذلك كله بما طرحه الكاتب الليبي الصادق النيهوم في كتابه الشهير: “الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟”، والذي دعا فيه إلى ضرورة استعادة الأمة العربية لوعيها الجماعي المستلب بشكل مزدوج ومضاعف من المؤسسة الدينية التقليدية ومن فكرها البائس، ومن المؤسسة السياسية وآليات هيمنتها على الفرد وتجريده من حريته، ومن قدرته على التفكير المستقل والواعي والمبدع، حتى يظل كل فرد مجرد عالم قائم بذاته، يفتقر إلى الوشائج التي تتيح له عملية التواصل والتفاهم مع الآخرين، لأن من يخسر مناخ الحوار الحر يخسر معه عقله الجماعي، ويورط نفسه “في ثقافة نمطية لا تعاني من غياب المواطنين الأذكياء، بل تعاني من غياب وسيلة التفاهم بينهم في مجتمع شبه أخرس، له صفات القطيع”.
ولذلك قرأنا وسمعنا طبيعة تلك الردود الخشبية الديماغوجية الجاهزة للإجهاز على نسائم الحرية، وعلى الحق في المساءلة والسؤال، سمعنا التهجم والتجريح والتسفيه في مواجهة الأسئلة الحية التي تقول للزعماء المقدسين: إلى أين تأخذوننا؟ وإلى متى الصمت على الانحراف والمغامرة؟ وما هي نهاية هذه المغامرة القاسية؟ ردود الأفعال والأقوال تلك لا تنم عن ضيق أفق في الفكر فقط، بل عن ضيق صدر الزعماء المقدسين بالأسئلة التي تذكرهم بأفعالهم وأقوالهم التي زجوا بواسطتها الآلاف من المواطنين في أتون حرب طاحنة، من خلال وعود كاذبة وسيناريوهات مفبركة، ليجدوا أنفسهم على رصيف البؤس، وليكتشفوا بعد انقشاع أبعاد المغامرة أنهم فقدوا الكثير، ولم يكسبوا شيئاً على الإطلاق غير قبض الريح.
إن اللجوء إلى التصنيفات الجاهزة التي تصنف الناس إلى مؤمنين وغير مؤمنين بالمعيار الديني، أو إلى صالحين وغير صالحين بالمعيار الأخلاقي، مغالطة كبرى تهدف إلى خلط الأوراق واستغلال العقول المستلبة الممنوعة من طرح السؤال والممنوعة من مساءلة زعماء الساسة “على الطريقة البابوية”، في حين أن الذي يتصدى للعمل السياسي يجب أن يمتلك برنامجاً سياسياً واضحاً يجيب على الأسئلة الأساسية ويطرح حلولاً واضحة وواقعية وقابلة للتنفيذ. كما إنه – حتى وإن كان رجل دين – يجب أن يكون خاضعاً للمساءلة عن أفعاله وبرامجه ومقترحاته ومغامراته. المهم هو ضمان الحق، السؤال والمساءلة والنقد، وهي من أبسط حقوق المواطنة، وحقوق الإنسان، ولذلك لا يمكن القبول أبداً بمصادرة العقول من الزعماء المقدسين، لأن القبول بذلك يعني أن نصبح مجردين من الحرية ومن الفكر، ليتم في المقابل تعويضنا عن حقنا في التفكير الحر بالمغالطات اللغوية والثرثرة، حيث تكون كثرة الكلام المنمق في الخطب الرنانة مجرد دليل على قلة معناها، وقلة فائدتها في الحياة العامة والخاصة.
إن ما نراه اليوم من عودة موحشة للهيمنة المكبلة للحرية وللفكر الحر على قطاعات واسعة من المواطنين، باسم الدين، والطائفة أحيانا، وباسم المعارضة، وباسم الوطنية المزيفة أحياناً، من خلال عمليات الاستلاب المركبة في غياب الوعي الجماعي، بات يشكل خطراً داهماً يهدد بإعادتنا إلى ما قبل الحداثة وما قبل الدولة وما قبل الديمقراطية، وما قبل الحرية وحقوق الإنسان، حيث أصبح- ضمن سياق هذه الهيمنة الكاتمة للأنفاس – الزعيم الديني – الطائفي المتسلط “قائداً شعبياً”، وأصبحت عصابات الفوضى ومليشيات الحرق والتعدي على الأمن والحريات العامة والخاصة، مناضلين من الدرجة الأولى، وأصبح الحزب الطائفي “حزب الله” وأصبحت المرأة المقموعة المجردة من قيمتها الإنسانية، ومن حريتها ومن طاقتها الحرة، ومن أبسط حقوقها الطبيعية “من الحرائر”، وأصبح الفقيه الجاهل المتخبط “عالماً جهبذاً في الدين”، وأصبحت القرارات العشوائية قرارات رشيدة حكيمة. المهمة الملحة اليوم تتجسد في ضرورة العمل من أجل استعادة هذا الوعي، خاصة بين أوساط الشباب الذين من أجلهم يُبذل كل هذا الجهد، ليتمكنوا من استنشاق عبير الحرية في مواجهة الحزب الطائفي في معركته لكسب السلطة والتسلط من خلال جبة الدين، وتمرير المغالطات باسم الدين، لتكون له بوابة طائفية على الجنة، ولكن من الواضح أن المواطن الشجاع الذي بدأ يجهر بأسئلته الحية لم يعد مستعداً للمشاركة في حفلة الزار المجنونة.
{{ article.visit_count }}
قوة طارحي الأسئلة الحية لا تتأتى من قدرتهم على فبركة الفتاوى الجاهزة، ولا في استخدام المولوتوف، ولا الأسياخ، ولا في حرق الإطارات، وسد الطريق أمام العابرين، ولا في فبركة البيانات والشعارات عبر الفضائيات، قوتهم تتمثل في طرح السؤال الصادق المخلص الحي الذي يلامس الأزمة في إشكالاتها الحقيقية مهما كانت موجعة.
ذكرتني أسئلة ذلك الرجل الشجاع في السنابس الذي لخص أزمة البحرين الراهنة وجملة الأخطاء الفادحة، بل والجرائم التي ارتكبتها بعض قوى التأزيم الطائفية، ومن قبله أسئلة التحدي التي طرحها الصديق الكاتب الصحفي حسن عبدالله المدني في أكثر من مناسبة والتي بشر فيها بارتفاع أصوات الهمس في المجالس الرافضة للأخطاء في حق الوطن والناس، وبأن هذه الأصوات سوف تتحول إلى جهر، ومن ثمة إلى سيل يجرف قداسة المقدسين لأنفسهم. ذكرني ذلك كله بما طرحه الكاتب الليبي الصادق النيهوم في كتابه الشهير: “الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟”، والذي دعا فيه إلى ضرورة استعادة الأمة العربية لوعيها الجماعي المستلب بشكل مزدوج ومضاعف من المؤسسة الدينية التقليدية ومن فكرها البائس، ومن المؤسسة السياسية وآليات هيمنتها على الفرد وتجريده من حريته، ومن قدرته على التفكير المستقل والواعي والمبدع، حتى يظل كل فرد مجرد عالم قائم بذاته، يفتقر إلى الوشائج التي تتيح له عملية التواصل والتفاهم مع الآخرين، لأن من يخسر مناخ الحوار الحر يخسر معه عقله الجماعي، ويورط نفسه “في ثقافة نمطية لا تعاني من غياب المواطنين الأذكياء، بل تعاني من غياب وسيلة التفاهم بينهم في مجتمع شبه أخرس، له صفات القطيع”.
ولذلك قرأنا وسمعنا طبيعة تلك الردود الخشبية الديماغوجية الجاهزة للإجهاز على نسائم الحرية، وعلى الحق في المساءلة والسؤال، سمعنا التهجم والتجريح والتسفيه في مواجهة الأسئلة الحية التي تقول للزعماء المقدسين: إلى أين تأخذوننا؟ وإلى متى الصمت على الانحراف والمغامرة؟ وما هي نهاية هذه المغامرة القاسية؟ ردود الأفعال والأقوال تلك لا تنم عن ضيق أفق في الفكر فقط، بل عن ضيق صدر الزعماء المقدسين بالأسئلة التي تذكرهم بأفعالهم وأقوالهم التي زجوا بواسطتها الآلاف من المواطنين في أتون حرب طاحنة، من خلال وعود كاذبة وسيناريوهات مفبركة، ليجدوا أنفسهم على رصيف البؤس، وليكتشفوا بعد انقشاع أبعاد المغامرة أنهم فقدوا الكثير، ولم يكسبوا شيئاً على الإطلاق غير قبض الريح.
إن اللجوء إلى التصنيفات الجاهزة التي تصنف الناس إلى مؤمنين وغير مؤمنين بالمعيار الديني، أو إلى صالحين وغير صالحين بالمعيار الأخلاقي، مغالطة كبرى تهدف إلى خلط الأوراق واستغلال العقول المستلبة الممنوعة من طرح السؤال والممنوعة من مساءلة زعماء الساسة “على الطريقة البابوية”، في حين أن الذي يتصدى للعمل السياسي يجب أن يمتلك برنامجاً سياسياً واضحاً يجيب على الأسئلة الأساسية ويطرح حلولاً واضحة وواقعية وقابلة للتنفيذ. كما إنه – حتى وإن كان رجل دين – يجب أن يكون خاضعاً للمساءلة عن أفعاله وبرامجه ومقترحاته ومغامراته. المهم هو ضمان الحق، السؤال والمساءلة والنقد، وهي من أبسط حقوق المواطنة، وحقوق الإنسان، ولذلك لا يمكن القبول أبداً بمصادرة العقول من الزعماء المقدسين، لأن القبول بذلك يعني أن نصبح مجردين من الحرية ومن الفكر، ليتم في المقابل تعويضنا عن حقنا في التفكير الحر بالمغالطات اللغوية والثرثرة، حيث تكون كثرة الكلام المنمق في الخطب الرنانة مجرد دليل على قلة معناها، وقلة فائدتها في الحياة العامة والخاصة.
إن ما نراه اليوم من عودة موحشة للهيمنة المكبلة للحرية وللفكر الحر على قطاعات واسعة من المواطنين، باسم الدين، والطائفة أحيانا، وباسم المعارضة، وباسم الوطنية المزيفة أحياناً، من خلال عمليات الاستلاب المركبة في غياب الوعي الجماعي، بات يشكل خطراً داهماً يهدد بإعادتنا إلى ما قبل الحداثة وما قبل الدولة وما قبل الديمقراطية، وما قبل الحرية وحقوق الإنسان، حيث أصبح- ضمن سياق هذه الهيمنة الكاتمة للأنفاس – الزعيم الديني – الطائفي المتسلط “قائداً شعبياً”، وأصبحت عصابات الفوضى ومليشيات الحرق والتعدي على الأمن والحريات العامة والخاصة، مناضلين من الدرجة الأولى، وأصبح الحزب الطائفي “حزب الله” وأصبحت المرأة المقموعة المجردة من قيمتها الإنسانية، ومن حريتها ومن طاقتها الحرة، ومن أبسط حقوقها الطبيعية “من الحرائر”، وأصبح الفقيه الجاهل المتخبط “عالماً جهبذاً في الدين”، وأصبحت القرارات العشوائية قرارات رشيدة حكيمة. المهمة الملحة اليوم تتجسد في ضرورة العمل من أجل استعادة هذا الوعي، خاصة بين أوساط الشباب الذين من أجلهم يُبذل كل هذا الجهد، ليتمكنوا من استنشاق عبير الحرية في مواجهة الحزب الطائفي في معركته لكسب السلطة والتسلط من خلال جبة الدين، وتمرير المغالطات باسم الدين، لتكون له بوابة طائفية على الجنة، ولكن من الواضح أن المواطن الشجاع الذي بدأ يجهر بأسئلته الحية لم يعد مستعداً للمشاركة في حفلة الزار المجنونة.