في الأسبوع الأخير من رمضان، وفي أيام يعتبرها المسلمون أيام فرج ورحمة، انعقدت في مكة المكرمة أعمال قمة مؤتمر منظمة العمل الإسلامي الاستثنائي، وهي المنظمة التي ضمت في عضويتها 57 دولة. الاستثناء سببه في الأساس ما يحدث الآن في سوريا من قتل للمدنيين بلا هوادة وسفك لدماء الأبرياء، لكن المؤتمر طاف بعدد من المشكلات التي تواجه المسلمين في أكثر من مكان.اللافت هو اقتراح خادم الحرمين الشريفين العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، الداعي للمؤتمر وحاضنه، في الجلسة الافتتاحية، إقامة مؤسسة للحوار بين المذاهب الإسلامية في الرياض، وهذا الاقتراح ينقل العمل الإسلامي من الآنية إلى المستقبلية. فلم يعد سراً اليوم تلبيس الاختلاف الفقهي، الذي صاحب المسلمين في معظم تاريخهم المعروف، لباس خلاف سياسي حاد وغير مبرر حتى في الوطن الواحد، مما سبب شروخا في الجبهة الداخلية تستنزف الطاقات. خلط السياسي المؤقت والقابل للتبدل، والذي تجري فيه وحوله المناورات، بالديني الذي ينتمي إلى قواعد ثابتة، يزيغ الأبصار وينشر الفتن.أوروبا المسيحية عانت من هذا الخلط لسنوات طويلة، ربما أكثر مما عانى المسلمون، ويمكن هنا التذكير برسالة جون لوك، هذا الفيلسوف الإنجليزي الشهير، المسماة “رسالة في التسامح”، والتي سخر فيها من النزاع العبثي في القرن السابع عشر بين البروتستانت والكاثوليك، الذي أهدر من الدماء أنهاراً وسخن الجبهات الداخلية الأوروبية إلى درجة الغليان ثم انتهى إلى تعايش بعد أن تأكد الجميع أن الخسارة فادحة.تلبيس الديني لباس السياسي استمر في جيوب أوروبية عديدة، لعل أشهرها في زماننا الصراع السياسي الذي تلبس الديني في مقاطعة شمال أيرلندا، وبعضنا يذكر رجل الدين إيان بيزلي في تلك المنطقة وخطبه النارية المتشددة ضد الآخر المختلف. وقد اختفى كل ذلك بعد التوصل إلى حلول سياسية، لكن المذاهب بقيت على حالها وأهلها اليوم في تناغم، فتصافحت ملكة بريطانيا البروتستانتية منذ أسابيع، مع رئيس الجيش الجمهوري الكاثوليكي السابق! مما يفيد بأن التوظيف السلبي للتنوع يؤجج العامة ويحقن المجتمع بحقن سامة تؤدي بصفوفه إلى التفكك.التنوع المذهبي في الإسلام حقيقة ثابتة، وهو اجتهاد إنساني، في تاريخنا تنوع وافر واجتهادات شتى، بقي من تلك الاجتهادات ما اعتقد الناس أنه نافع لهم، واضمحل ما هو غير مفيد، فالاجتهادات التي تعيش بيننا اليوم هي بعض الاجتهادات الإسلامية التي يطلق عليها “مذاهب”، أما الأخرى التي ظهرت في وقت ثم اختفت، وكان المقصد منها سياسيا فلم تعد قائمة. حتى تعريف “المذهب” لغة هو الطريق أو السبيل الذي يسلكه الناس إلى الهدف، أما المقصد فهو واحد، إرضاء الله وعمل الصالح في الأرض وإعمارها. التقريب بين المذاهب الإسلامية ليس فكرة جديدة، فقد اجتهد فيها عدد من العلماء في السابق، وأيضاً أقيمت له المؤسسات العاملة على تفعيله. اقتراح الملك عبد الله هو “الحوار بين المذاهب” وليس التقريب بين المذاهب الذي دعا إليه البعض في السابق، كما إنه يفوق التسامح، لأن المعنى الدفين للتسامح هو غلبة شيء على آخر، والتسامح معه يعني تأكيد التفوق، وربما ذلك عمل لا توازن فيه.فكرة الحوار في معناه الأهم هي “تخليص المقدس من المدنس” عن طريق إعمال العقل أولاً، وأيضاً من دون أن يطلب فريق من آخر أن يترك ما لديه للانضمام إلى الفريق الآخر، هو اعتراف بالاختلاف الصحي ونقله من مكان شائك “السياسة” إلى مكان رحب “الفكر وإعمال العقل”، وهو لا يتطلب الدعوة إلى مذهب دون آخر، أو تغليب تصور للتاريخ على آخر، كما لا يتطلب تفسيرات قسرية للتقارب، بل يتطلب الاعتراف بالآخر، وإبعاد الشأن السياسي عن الشأن الديني. وفكرة التنوع تعني أن الأصل واحد.في أجواء العرب الحالية التي تم حقن العامة فيها بشعارات ضد الآخر من أجل الحشد والتأييد حتى مع تغييب العقل، في مثل هذه الأجواء يسعى العقلاء ويدعون أول ما يدعون إلى الحوار، لأن الحوار معرفة وتفهم، كما أنه لا يقتصر على الفقهاء، بل يشمل العاملين أيضاً في العلوم الاجتماعية الحديثة ذات المناهج المقارنة التي تسبر غور تاريخ المنطقة وتفاعلاتها في أطوارها المختلفة والبناء على الإيجابي منها، كما يظهر الحوار مغبة التعصب الأعمى وتزييف التاريخ الذي كتبه البعض من أجل أغراض سياسية. الحوار هو أيضاً نزع القشور عن الأصول.ابتلي العالم الإسلامي، ضمن بعض ما ابتلي به في عصرنا، بالتجهيل والتوظيف السياسي، وكانت لذلك أرضيته التي تغذت على أهواء الساسة وتفسيرات فقهاء الفضائيات وماكينات الأحزاب المؤدلجة. وما دفع حتى الآن من الأثمان باهظ، وقد تدفع أثمان أكثر وأعظم تستنزف الجهود، إن تركنا الأمور تسير على ما هي عليه.اقتراح الملك عبد الله هو مبادرة لإنشاء هيئة الحوار التي هي “هيئة مستقلة للتفكير في شؤوننا” وإشاعة ما تتوصل إليه للناس كافة للتبصر فيه، مع وجوب الوقوف الصلب أمام من يريد أن يتاجر في بضاعة الخلاف النسبي في وجهات النظر لتصعيد اختلاف سياسي طاحن عانت منه شعوب أخرى في فترات تاريخية سابقة. إنه تقديم للحكمة على الشطط.. وتفعيل للعقل ضد الجهل.آخر الكلام:بثت محطة “سي إن إن” مؤخراً مقابلة بين كريستيانا أمانبور المذيعة الأشهر في المحطة، مع رئيس الجمهورية المصري، وقد سجلت وقت انتخابات الإعادة. سألت المذيعة: “أي ديمقراطية إسلامية سوف تطبقون، التركية أم الإيرانية؟”.. فقال “المرشح” الرئيس الآن: “لا توجد ديمقراطية إسلامية، توجد ديمقراطية إنسانية”!? عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية