المتشردون أو (الهوم لس)؛ كما يتم وصفهم في أدبيات حقوق الأنسان المخادعة، ظاهرة تنمو بسرعة وأسبابها كثيرة ومتشعبة. بعض تلك الأسباب تعود إلى تصرفات المتشردين أنفسهم والبعض الآخر بسبب انعدام العدالة الاجتماعية، لذا أصبح منظر من يفترشون الأرض ويلتحفون ملابسهم البالية ويقتاتون من القمامة والفضلات أمراً مألوفاً في العالم، وإن اتسعت هذه الظاهرة في الغرب الذي يدعي رعاية حقوق الإنسان بشكل أكثر من باقي بقاع (المخروبة).
الظاهرة المؤلمة انتشرت أيضاً في الدول العربية بشكل متفاوت الحجم والتأثير، وهي نتيجة ظروف اجتماعية سيئة واقتصادية قاهرة؛ إلا أن العرب بما يتمتعون به من شفقة ورحمة فإن الكثير من هؤلاء المتشردين تتم مساعدتهم بطريقة أو أخرى، وهم على كل حال أفضل حالاً من غيرهم في الغرب ولسنا هنا بصدد دراستها.
أثناء تواجدي في جنيف شاهدت الكثير منهم، وعلى مقربة من مبنى مجلس حقوق الإنسان، ولا يبدو أنهم يشكلون فارقاً في ميزان حقوق الإنسان الأعوج الذي يميل أينما تميل مصلحة الدول العظمى، عشرات المتشردين يفترشون الضفاف العشبية لبحيرة جنيف الساحرة، حيث يمر بهم الأغنياء والسواح وهواة رياضة الجري دون أن يفكر أحدهم بطرح سؤال أو إيجاد إجابة إلا ما ندر، ربما لأن الأمر لا يعنيهم، متشردة واحدة نطقت بكلمة واحدة جذبت انتباهي من بين عشرات المتشردين في جنيف ممن مررت بهم أثناء الذهاب والإياب إلى مجلس حقوق الإنسان، متشردة واحدة قررت أن أُجري معها حواراً إنسانياً بعيداً عن عدسة الكاميرا، متشردة واحدة من بين عشرات الذين يفترشون الأرض ويقضون معظم يومهم في الشوارع ولا يوجد لهم بيت يأويهم أو وجبة طعام دافئة تنعش أمعاءهم، متشردة واحدة من بين عشرات غيرها أدمنوا جو جنيف المتقلب بين مطر وشمس مرتدين نفس الملابس الرثة في الصيف والشتاء.
اسمها مريم؛ وهي ابنة أحد خبراء النفط العراقيين في السبعينات، وصل أبوها المسيحي العربي وأمها المسيحية الكردية إلى روسيا عندما كان الاتحاد السوفيتي، حيث حصلت العائلة على جواز السفر الروسي الذي اكتسبته مريم بالولادة، لكنها قررت بعد بلوغها سن الرشد أن تعود للعراق وتحصل على أوراق ثبوتية عراقية، لأنها بصراحة؛ إما وطنية حقيقية أو مجنونة حقيقية، رفضت السلطات العراقية قبل الاحتلال منحها حقها المستحق، وكذلك رفضت السلطات بعد الاحتلال، لذا تضحك قائلة لا صدام العربي منحني الجواز من أجل أبي العربي ولا الطالباني الكردي منحني الجواز من أجل أمي الكردية، رحلة مريم مع الحياة أسفرت عن زواج لم يدم طويلاً وابن سويسري يعمل مهندساً في الخليج العربي لا تعرف له مكاناً أو وسيلة اتصال، وابنة متزوجة من فنان تشكيلي بلجيكي وتعيش مع زوجها وأطفالها في بلجيكا ولا تعرف لها سبيلاً أيضاً، بينما انتهى المقام بمريم العراقية والروسية والسويسرية إلى وضعها الحالي كمتشردة تجيد اللغة العربية والكردية والروسية والإنكليزية والفرنسية وتقتات فتات موائد المطاعم.
مريم استوقفتني بكلمة عراقية لا يقولها إلا أهل بغداد، وهي كلمة (باوع) وتعني انظر أو شاهد، قالتها عندما مررت بها وأنا أتحدث عبر الهاتف، أنهيت المكالمة على عجل ليكون لي معها هذا الحوار. فقلت لها: هل أنتِ عراقية؟، فقالت: نعم عراقية من بغداد وأحمل جواز سفر سويسري وروسي، وأخبرتني بعد شد وجذب عن حكايتها وعقوق أبنائها، بعد ساعة من الحديث غير المترابط ولا المتسلسل قالت لي أريد أن أدفن في العراق؟ فقلت لها وما الفرق يا مريم؟ فأجابت بلهجة بغدادية حازمة لأنه تحدي؛ فإن منعني قانون الأرض من العيش في العراق فعلى الأقل عندما أدفن في العراق أكون قد انتصرت عليهم بقانون السماء.
هذه حكاية مريم وعلى السفارة العراقية في البحرين إيصال هذه الرسالة إلى الرئيس الكردي أو رئيس البرلمان العربي أو حتى رئيس الوزراء.
الظاهرة المؤلمة انتشرت أيضاً في الدول العربية بشكل متفاوت الحجم والتأثير، وهي نتيجة ظروف اجتماعية سيئة واقتصادية قاهرة؛ إلا أن العرب بما يتمتعون به من شفقة ورحمة فإن الكثير من هؤلاء المتشردين تتم مساعدتهم بطريقة أو أخرى، وهم على كل حال أفضل حالاً من غيرهم في الغرب ولسنا هنا بصدد دراستها.
أثناء تواجدي في جنيف شاهدت الكثير منهم، وعلى مقربة من مبنى مجلس حقوق الإنسان، ولا يبدو أنهم يشكلون فارقاً في ميزان حقوق الإنسان الأعوج الذي يميل أينما تميل مصلحة الدول العظمى، عشرات المتشردين يفترشون الضفاف العشبية لبحيرة جنيف الساحرة، حيث يمر بهم الأغنياء والسواح وهواة رياضة الجري دون أن يفكر أحدهم بطرح سؤال أو إيجاد إجابة إلا ما ندر، ربما لأن الأمر لا يعنيهم، متشردة واحدة نطقت بكلمة واحدة جذبت انتباهي من بين عشرات المتشردين في جنيف ممن مررت بهم أثناء الذهاب والإياب إلى مجلس حقوق الإنسان، متشردة واحدة قررت أن أُجري معها حواراً إنسانياً بعيداً عن عدسة الكاميرا، متشردة واحدة من بين عشرات الذين يفترشون الأرض ويقضون معظم يومهم في الشوارع ولا يوجد لهم بيت يأويهم أو وجبة طعام دافئة تنعش أمعاءهم، متشردة واحدة من بين عشرات غيرها أدمنوا جو جنيف المتقلب بين مطر وشمس مرتدين نفس الملابس الرثة في الصيف والشتاء.
اسمها مريم؛ وهي ابنة أحد خبراء النفط العراقيين في السبعينات، وصل أبوها المسيحي العربي وأمها المسيحية الكردية إلى روسيا عندما كان الاتحاد السوفيتي، حيث حصلت العائلة على جواز السفر الروسي الذي اكتسبته مريم بالولادة، لكنها قررت بعد بلوغها سن الرشد أن تعود للعراق وتحصل على أوراق ثبوتية عراقية، لأنها بصراحة؛ إما وطنية حقيقية أو مجنونة حقيقية، رفضت السلطات العراقية قبل الاحتلال منحها حقها المستحق، وكذلك رفضت السلطات بعد الاحتلال، لذا تضحك قائلة لا صدام العربي منحني الجواز من أجل أبي العربي ولا الطالباني الكردي منحني الجواز من أجل أمي الكردية، رحلة مريم مع الحياة أسفرت عن زواج لم يدم طويلاً وابن سويسري يعمل مهندساً في الخليج العربي لا تعرف له مكاناً أو وسيلة اتصال، وابنة متزوجة من فنان تشكيلي بلجيكي وتعيش مع زوجها وأطفالها في بلجيكا ولا تعرف لها سبيلاً أيضاً، بينما انتهى المقام بمريم العراقية والروسية والسويسرية إلى وضعها الحالي كمتشردة تجيد اللغة العربية والكردية والروسية والإنكليزية والفرنسية وتقتات فتات موائد المطاعم.
مريم استوقفتني بكلمة عراقية لا يقولها إلا أهل بغداد، وهي كلمة (باوع) وتعني انظر أو شاهد، قالتها عندما مررت بها وأنا أتحدث عبر الهاتف، أنهيت المكالمة على عجل ليكون لي معها هذا الحوار. فقلت لها: هل أنتِ عراقية؟، فقالت: نعم عراقية من بغداد وأحمل جواز سفر سويسري وروسي، وأخبرتني بعد شد وجذب عن حكايتها وعقوق أبنائها، بعد ساعة من الحديث غير المترابط ولا المتسلسل قالت لي أريد أن أدفن في العراق؟ فقلت لها وما الفرق يا مريم؟ فأجابت بلهجة بغدادية حازمة لأنه تحدي؛ فإن منعني قانون الأرض من العيش في العراق فعلى الأقل عندما أدفن في العراق أكون قد انتصرت عليهم بقانون السماء.
هذه حكاية مريم وعلى السفارة العراقية في البحرين إيصال هذه الرسالة إلى الرئيس الكردي أو رئيس البرلمان العربي أو حتى رئيس الوزراء.