قلنا إن المبدأ الثاني لنظرية “الحاجة المفقودة” هو أن هذه الحاجة لدى المرء متغيِّرة عبر الزمان والمكان والأشخاص والمجتمعات، ففي مرحلةٍ ما، قد يكون المال فعلاً حاجة أساسية لديه، لكن حصوله لاحقاً على المال، بطريق التخطيط البارع أو بمحض الصدفة، كأن يرث مبلغاً ضخماً أو يربح اليانصيب، قد يحّل المشكلة، لكن سيفتح المجال أمام حاجة جديدة أخرى مفقودة لديه، كأن يكون النفوذ مثلاً، باعتبار أن الثري يطمح أن ينتمي إلى نخبة أعيان المجتمع. كما إن الحاجة المفقودة تتغيّر كذلك عبر المكان، فالشخص الذي يبحث عن عمل في بلده الأم دون جدوى قد يفكِّر بالسفر إلى بلد آخر لتحقيق هذا الهدف، وفي هذه الحالة سوف تُستبدل حاجته إلى الوظيفة بالحاجة مثلاً إلى التكيّف الاجتماعي في البيئة المستجدة، ومثل هذه الحاجة قد لا تكون بالضرورة سهلة المنال. ومن الطبيعي أن تتبدّل الحاجة عبر الأشخاص، فكل واحد منا تعوزه حاجة رئيسة لا يستطيع الاستغناء عنها، ويعتقد، وإن بصورة مؤقتة، أن استيفاءها سوف يغيِّر حياته رأساً على عقب؛ وحتى لو تماثلت الحاجات عند أكثر من شخص، فمن المحتمل جداً أن تكون طبيعتها مختلفة، فقد يكون شخص ما بحاجة إلى إنجاب طفل يسعده بشقاوته، وقد يشاطره صديقه هذه الحاجة، لكنه يرغب في أن تحبل زوجته بمولودة أنثى تحديداً. إن الحاجات المفقودة تتغيّر أيضاً عبر المجتمعات، فهذا المجتمع بحاجة إلى تحقيق الاستقلال الوطني، وذاك يطمح إلى زيادة رقعة الحريات الديمقراطية، ومجتمع ثالث وضع السلم الأهلي على رأس قائمة حاجاته، فبدونه لا يستطيع تحقيق التنمية الاجتماعية المنشودة في بلاده. ينّص المبدأ الثالث على توالد الحاجات المفقودة، أي أنها تتناسل بطريقة مذهلة في بعض الأحيان، فالشخص الذي يبحث عن شريكة العمر لتلبية حاجته إلى الخروج من الوحدة، وتكوين أُسرة، وتحسين وضعه المادي والاجتماعي، سوف يكتشف حالما يتزوّج أنه كان قد أغفل في الماضي حاجةً مفقودةً أساسية، حيث إن الظروف التي مرّ بها وضعتها في المرتبة الثانية، كأن تكون الحاجة إلى الترقية الوظيفية، وحينئذٍ سيبدو أمامه الالتحاق بدورات تدريبية وتأهيلية مهمّة لا تحتمل التأجيل، مع أنها لم تكن حتى عهد قريب في الحسبان، رغم أهميتها الاستثنائية!