في نوفمبر من العام 2009 نشرت مجلة ناشيونال جيوغرافي، مقالة لموفدها الخاص إلى سوريا دون بيلت الذي حظي بلقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد، ونقل عنه حادثة تصلح لتكون عبرة عن حال سورية على مدى 41 عاماً من حكم عائلة الأسد. روى الرئيس للصحافي كيف أنه حتى تاريخ توريثه السلطة دخل مرتين فقط إلى مكتب والده الرئيس الراحل حافظ الأسد.

المرة الأولى كانت وله من العمر سبع سنوات، حيث جاء راكضاً من شدة فرحه ليخبر والده عن درسه الأول في اللغة الفرنسية، ولفت انتباهه يومها زجاجة كولونيا كبيرة موضوعة على الخزانة بجانب المكتب.

أما المرة الثانية التي دخل فيها المكتب فكانت في أعقاب وفاة والده في العام 2000، ليفاجأ بذات زجاجة الكولونيا الكبيرة لاتزال تقبع في مكانها على الخزانة، بعد 35 عاماً.

وإذا كان الرئيس السوري، يروي هذه الحادثة للدلالة على تقشف والده، وحرصه على عدم الانجرار وراء التغيرات المتسرعة، فإن هذه القصة تصلح في ذات الوقت للدلالة على حال “سوريا أخرى” تم وضعها على الرف وتم تناسيها على مدى عقود طويلة تحت مسميات الاستقرار والممانعة بوجه إسرائيل، وها هي اليوم تطل علينا من جديد لتذكرنا أن سوريا الحقيقية ليست زجاجة كولونيا وأن أبناءها ليسوا من أهل الكهف! ولكنهم كبقية شعوب الأرض، شعب حي يطمح للعيش بحرية وكرامة في وطن عادي كبقية الأوطان.

في كل مرة أتذكر هذه القصة، تصيبني غصة وأتذكر والدي الرئيس السوري السابق نور الدين الأتاسي الذي أمضى 22 عاماً في زنزانة ضيقة في سجن المزة من دون أن يحاكم أو توجه له أي تهمة.

22 عاماً وزجاجة الكولونيا لا تتحرك من مكانها على الرف ووالدي لا يتحرك من مكانه في السجن، ومأساتنا ومآسي آلاف السورين تزداد اتساعاً.

22 عاماً من القهر والعجز عن فعل أي شيء.

22 عاماً والأيام تمضي هاربة من عمرنا على إيقاع زياراتنا له في السجن مرة واحدة كل أسبوعين ولمدة ساعة واحدة في كل مرة.

22 عاماً غادرت فيها أنا وأختي طفولتنا وغادر والدي الحياة بعد أن أصيب بالسرطان ومنع عنه العلاج وأطلق سراحه في النهاية ليموت في باريس في ديسمبر 1992 بعد أسبوع من وصوله إليها محمولاً على نقالة.

22 عاماً هي عمرنا المسروق وهي زجاجة الكولونيا المهملة على الرف وهي سوريتنا المنسية.

أما سوريا المنسية بالنسبة لمعظم الشعب فمعناها، الدولة البوليسية والبلد الممسوك بقبضة من حديد.

سوريا المنسية معناها سنوات الثمانينات المشرعة كغطاء دم على الذاكرة السورية.

سوريا المنسية معناها، بلد ملزم دولياً بقضه وقضيضه إلى سلطة مستبدة، حرصاً على الاستقرار الإقليمي.

سوريا المنسية معناها أمن إسرائيل المستتب على حدود هضبة الجولان المأمنة والباردة كبرودة ثلوج جبل الشيخ.

سوريا المنسية معناها ألوف المعتقلين السياسيين الذين زجوا لعشرات السنين في غياهب السجون والمعتقلات.

سوريا المنسية معناها، ألوف المفقودين الذي لا يعرف أهاليهم عنهم شيئاً إلى يومنا هذا ولا يملكون من أثرهم ولا حتى شهادة وفاة.

سوريا المنسية معناها، آلام ودموع آلاف الأمهات والزوجات اللواتي ينتظرن منذ الثمانينات وإلى اليوم عودة أبنائهم المختفين ولو في أكفان.

سوريا المنسية معناها إذلال يومي وكرامات مستباحة وعصا غليظة وعبادة فرد وصمت مطبق وخوف مستشرِ.

سوريا المنسية معناها قرارات مؤجلة وخطوات ناقصة وشبكات فساد ومحسوبية وبيروقراطية مترهلة وأجهزة أمن مطلقة اليدين من دون حسيب ولا رقيب.

سوريا المنسية معناها إقصاء السياسة عن المجتمع و تدجين القضاء وخنق المجتمع المدني وسحق المعارضة.

سورية المنسية معناها هذا الشعار المخيف في دلالاته “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد”، الذي ظل يزين مداخل المدن وواجهات الأبنية الرسمية ليقول للشعب السوري إن التاريخ مات على حدود بلدهم.

وإذا كان صحيحاً أن التاريخ لم يمت، بل كان يطل برأسه بين الفينة والأخرى على الواقع السوري مذكراً ومحذراً بأن هذا البلد لا يمكن أن يكون خارج التاريخ، فإن السلطة كانت تسارع في كل مرة إلى دفن رأسها بالرمال متوهمة أنه باستخدام الأساليب الفظة ستتمكن من إيقاف مجرى التاريخ على عتبات السجن السوري الكبير.

حدث هذا الأمر خلال أحداث الثمانينات الدموية التي انتهت بمجزرة حماة.

وحدث في بداية التسعينات مع انهيار الكتلة السوفيتية وسقوط نموذج الحزب الواحد في العالم والإصرار على استمرار تطبيقه في سوريا.

وحدث مع وفاة الرئيس حافظ الأسد في العام 2000 وابتداع سيناريو التوريث في محاولة للهروب إلى الأمام في مواجهة استحقاق الموت والحياة.

وحدث مع وأد “ربيع دمشق” وسجن أبرز ناشطيه كجواب على مطالبتهم بطي صفحة الماضي والبدء في عملية التحول الديمقراطي.

لقد عاندت السلطة على مدى الأربعة العقود الماضية، وتمنعت عن إدخال أي تعديلات جدية على بنيتها السياسية والأمنية، وأتى سيناريو التوريث من الأب إلى الابن ليبين بما لا يدع مجالاً للشك، إصرار الدوائر الضيقة في السلطة على إبقاء التوازنات السلطوية وآلية صنع القرار وهالة القداسة على حالهم من حول أعلى هرم السلطة.

في مقابل هذا الجمود السياسي، حدثت تغيرات هائلة في البنى الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع السوري، وتضاعف عدد السكان عدة مرات وتوسعت الفئة الشبابية على حساب بقية الشرائح العمرية، إلى الحد الذي وصل فيه عدد شباب سوريا ما دون العشرين عاماً إلى حدود 60% من إجمالي عدد السكان.

وترافق هذا مع هجرة ريفية واسعة وانفجار سكاني في ضواحي المدن الكبرى كدمشق وحلب وتفشٍ كبير للبطالة، وخلل واسع في توزيع الثورات من جهة وتمركز الجزء الأكبر منها في يد فئة قليلة من رجالات السلطة وحاشيتهم.

لقد اعتادت بعض الأوساط الدبلوماسية الغربية وبعض الأقلام الاستشراقية، أن تشكك على الدوام في إمكانية أن يثور الشعب السوري للمطالبة بحريته وحقوقه، وكأن هذا الشعب لا ينتمي إلى الإنسانية بل إلى فصيلة غريبة من الكائنات الفضائية، وبالتالي لا يحق له ما يحق لغيره من شعوب الأرض.

وعمدت هذه الدوائر إلى التقليل من شأن مظاهر المقاومة الخفية والانشقاق السياسي التي لم ينفك المجتمع السوري يظهرها بشكل متقطع على مدى العقود الماضية. لكن كون سوريا لا تقع على كوكب المريخ، وكون أبنائها كما بقية البشر العاديين يطمحون أن يعيشوا بكرامة وحرية في بلد ديمقراطي، فكان طبيعياً عندما أتت ساعة الحقيقة أن يفتحوا قلوبهم وعقولهم لرياح الربيع العربي التي هبت مع تداعي حائط برلين العربي الذي شيد بالقمع والخوف ليفصل بين الشعوب العربية وبين الديمقراطية، بخيارات واهية من مثل الاستقرار أو الفوضى، الاستبداد أو الإسلاميين.

إن سوريا الأخرى التي تناستها السلطة، لم ينسها التاريخ! وها هي تعود اليوم لتطالب بحقوقها المستلبة ويعود التاريخ معها ليطالب بفواتيره المستحقة. وإذا كانت الثورة السورية هي الأقسى من بين الثورات العربية لجهة وحشية السلطة واستعدادها لارتكاب الفظائع بحق أبناء شعبها وتهديدها له بالحرب الأهلية، فمما لاشك فيه أن إصرار الشعب السوري على الطابع السلمي لتحركه وعلى وحدة مكوناته الوطنية سيكون كفيلاً في النهاية بتمكينه من استعادة حريته وبناء تجربته الديمقراطية.

إن شعباً لايزال يواجه بشجاعة نادرة وصدور عارية رصاص القناصة الذي ينهمر عليه من كل حدب وصوب كلما خرج ينادي بالحرية، هو أول من يعرف معنى هذه الحرية لأنه دفع غالياً ثمنها من أرواح أبنائه، وهو قادر أن يمارس هذه الحرية بمسؤولية ورشد من دون أي أستذة أو وصاية من أحد.

عندما سجن والدي في العام 1970 في أعقاب الانقلاب الأبيض الذي نفذه الجنرال حافظ الأسد على رفاقه في حزب البعث، كان لي من العمر ثلاث سنوات. كطفل استغرقني الأمر فترة قبل أن أستوعب أن السجن ليس للمجرمين فقط ولكن أيضاً لسجناء الرأي والضمير.

لم أرث من والدي الذي حكم أربع سنوات لا سلطة ولا جاه، كان كل ما ورثته منه كان عبارة عن حقيبة ثياب صغيرة أعيدت لنا من السجن بعد وفاته، وكانت هذه الحقيبة هي كل ما يملك حرفياً بعد 22 عاماً قضاها في ذات الزنزانة وذات السجن. كل ما أتذكره من هذه الحقيبة اليوم هو رائحة رطوبة السجن التي تغلغلت في نسيج ثيابه وحاجياته.

في مقابلته مع المجلة الأمريكية فات الرئيس السوري أن يخبر ما الذي فعله بزجاجة الكولونيا المنسية على الرف في مكتب والده! والحقيقة أن الجواب لم يعد يعني الكثير بعد اندلاع الثورة السورية.

من جهتي سأخبر والدي في المرة القادمة التي أزور قبره فيها أن الحرية انبعثت من جديد في الشعب السوري، وهي أكبر بكثير من القبور التي حاولوا دفنه فيها.

وسأطمئنه أن هذا الشعب تمكن أخيراً من كسر زجاجة الكولونيا، فإذا بعطر الحرية الذي فاح منها، أقوى بكثير من روائح الدم الذي يحاولون إغراقه فيه.

^ النص العربي منشور في جريدة “نيويورك تايمز” الأمريكية