يتوقف المرء عند قراءته لخطاب الرئيس التونسي منصف المرزوقي الذي ألقاه نيابة عنه أحد مستشاريه في افتتاح المؤتمر العام الثاني لحزب «المؤتمر»، للاتهام الذي وجهه علانية إلى «حركة النهضة الإسلامية، قائدة الائتلاف الحاكم بالسعي للسيطرة على الدولة»، موضحاً قوله «بأن إخواننا في النهضة يسعون للسيطرة على مفاصل الدولة الإدارية والسياسية عبر تسمية أنصارهم سواء توفرت فيهم الكفاءة أم لم تتوفر». نذكر هنا بأن حركة «النهضة»، هي شريك حزب «المؤتمر» في الائتلاف الثلاثي الحاكم، الذي يضم بالإضافة إليهما حزب «التكتل» التونسي. وحدد المرزوقي اتهاماته في قضايا كثيرة، كان الأبرز منها اتهامه الحكومة برئاسة أمين عام حركة النهضة حمادي الجبالي، «بالتأخير في بحث مشاريع التنمية في الجهات المحرومة، والتردد في إطلاق عنان العدالة الانتقالية، ومحاسبة الفاسدين، وتسوية ملفات الجرحى وعائلات الشهداء، الذين سقطوا خلال الثورة التي أطاحت بنظام بن علي».
تثير اتهامات المرزوقي تلك أكثر من علامة استفهام كبيرة في ذهن من يتابع تطور الأوضاع في تونس، وهي الدولة التي انطلقت منها شرارة ما أصبح يعرف باسم «الربيع العربي»، الذي، عندما أشعل الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه، احتجاجاً على سوء الأوضاع في تونس تحت حكم بن علي، وترديها إلى درجة أدت إلى ارتفاع نسب البطالة، وتدهور الاقتصاد، وانتهى الأمر بسقوط ذلك النظام، ووصول التحالف الثلاثي إلى السلطة. الأمر ذاته تكرر، وبصور أخرى وسيناريوهات مختلفة، لكن النهايات كانت مماثلة، فتدحرج بعده نظام مبارك في مصر، وسقط حكم القذافي في ليبيا.
إذا يبقى السؤال ملحاً، ومازلنا عند الحالة التونسية، لماذا تعاد الاتهامات التي كانت توجه للأنظمة المطاح بها إلى الأنظمة التي استبدلتها، وفي مقدمة تلك الاتهامات «تسمية الأنصار سواء توفرت فيهم الكفاءة أم لم تتوفر»؟
هناك أسباب كثيرة يمكن للمرء أن يوردها لتفسير هذه الظاهرة، لكن ربما سنجد أنفسنا نلف وندور كي نرجع إلى سبب رئيس واحد هو «ضعف»، وفي بعض الحالات يصل الأمر إلى «انعدام»، دور المؤسسات المجتمعية الناضجة، ذات الأسس الراسخة التي بوسعها أن تمارس دور صمام الأمان الذي يضمن انتظام سير خطوات المجتمع على طريق تطوره، ويحول دون انحراف طبيعي يحتاجه ذلك المجتمع من أجل إعادة تنظيم صفوف مؤسساته، كي يعاود السير على تلك الطريق، من أجل الوصول إلى نهاياتها.
ونمط المؤسسات الذي نتحدث عنها، والتي بوسعها ممارسة ذلك الدور يفترض أن تتوفر فيها المواصفات التالية:
1- خضوعها الطوعي، المتفاعل إيجابياً وبصدق مع القوانين والتشريعات المعاصرة، المتكاملة مع الأنظمة الحديثة الموازية لها، التي تنظم عمل، وقبله إشهار، المؤسسات المجتمعية. ولابد من التأكيد هنا، والمجتمعات العربية إجمالاً، ماتزال في بداية الطريق، على الاستفادة مما وصلت إليه المجتمعات المتمدنة التي قطعت شوطاً طويلاً على تلك الطريق، كي لا يستجاب لدعوات «التميز الحضاري العربي» عن الحضارات الأخرى بشكل أعمى، فتكون على حساب التكوين الحضاري الصحيح لمثل تلك المؤسسات. ليس المقصود هنا طمس القيم الحضارية العربية الإسلامية المنغرسة عميقاً في سلوكنا، لكن بالمقابل، لا ينبغي أن يصل الأمر إلى درجة من التعصب الأعمى، الذي عانى منها تشكل العديد من تلك المؤسسات، فأتت النتائج عكسية، وقادتنا إلى ما نحن عليه اليوم. لقد راكمت المجتمعات البشرية، التي يفترض أن نكون نحن العرب من المنتسبين لها، تجارب غنية في هذا المضمار، من الخطأ اتخاذ موقف سلبي منها، والإصرار غير المبرر، على أن نلج الطريق من بدايتها، بدلاً من الانطلاق من نهايتها، مستفيدين من الكم الذي راكمته تلك الحضارات، وفي القلب منها ذلك الذي ساهمت به الحضارة العربية الإسلامية. إن غياب مثل تلك التشريعات يجرد من يسعى لبناء مجتمع متحضر يقوم أساساً على الدور الإيجابي لمؤسساته المدنية من أهم أسلحته التي يحتاجها، ويضعها بيد أعداء له، لا يكفون عن وضع العصي في دولاب ذلك التحول نحو العمل المؤسساتي، كي يضمنوا استمرار نفوذهم الفردي المنافي لعمل تلك المؤسسات.
2- عدم الارتهان للشكليات، والتقيد بالمقاييس الجوهرية. فليس المقصود بالمؤسسات تلك التي ترتهن إلى الآليات الشكلية التي تنحصر في مجرد التقيد بالإجراءت التنظيمية، على الرغم من أهميتها، وإهمال تلك المهنية. فوضع الأمور في نصابها يقتضي التمسك بمقاييس دقيقة تزرع الحيوية في كيان تلك المؤسسات كي تدافع عن مصالحها، التي هي بالضرورة متطابقة مع مصالح الأعضاء الذين شكلوها، عوضاً عن ممارسة العكس من ذلك، من خلال تجيير عمل تلك المؤسسات، وربما بدون وعي، كي تخدم مصالح الأفراد، فتأتي النتيجة مناقضة، عندما تأتي مصالح الأفراد في المقدمة، وهو ما تعاني منه مؤسسات المجتمع العربي، ومن بينها تونس، فتسبق مصلحة المؤسسة، وربما تستبدلها.
3- التركيز على محتوى برامج عمل تلك المؤسسات ووظائفها، بدلاً من الاهتمام بالشعارات التي ترفعها وعلو صوتها وبريق ألوانها. ففي الحالة الأولى وهي الصحيحة المعافاة، تستقطب المؤسسات أعضاءها، وتفرزهم بدقة وحصافة قبل أن تقبل انتسابهم إليها، بينما في الثانية، تنجر هي إلى من تعلو أصواتهم مرددين تلك الشعارات التي تتحول إلى مكونات جوفاء أفرغت من محتواها. يوفر التركيز على البرامج والوظائف مقاييس الاحتكام السليمة القادرة على تأمين عمليات الفرز الصائبة التي تميز بين مصلحة المؤسسة المعنية وانتهازية الأفراد التسلقية، وتؤمن في الوقت ذاته صمامات الأمان التي تقي المؤسسة من أمراض الانحراف عن الطريق، أو السقوط فريسة سهلة في أيدي الأفراد، أو أعوانهم ممن يسعون إلى جر المؤسسة لخدمة مصالحهم الذاتية، وبرامجهم الشخصية.
4- نبذ الإمعان في تسييس منظمات المجتمع المدني غير السياسية، والتمسك بسيرها على طريق برامجها المهنية والوظيفية، كما تحدده لها برامجها التي وضعها أفرادها من المهنيين الذي يفترض فيها أن تصب جهودها للدفاع عنه تلك المصالح، بعيداً عن أية برامج أخرى. ومنعاً لأي التباس هنا، فليس المقصود بذلك تجريد المهنيين من حقهم في ممارسة أدوارهم السياسية التي يفترض أن يبيحها لهم دستور البلاد والأنظمة والقوانين المنبثقة عنه، فهم بوسعهم القيام بذلك من خلال تنظيماتهم السياسية التي هي الأخرى عليها أن تتقيد، بأرقى المقاييس، ببرامجها ووظائفها التي حددتها لنفسها، دون أي خلط بينها وبين برامج ووظائف تلك المنظمات المدنية التي يفترض فيها المحافظة على المهنية التي أشرنا لها. يساعد التقيد بهذا التمييز ووضوحه، على عدم خلط الأوراق، ومن ثم يسد الطريق أمام أية محاول لشخصنة المؤسسات، مهنية كانت تلك المؤسسات أم سياسية.
ربما تكون هناك أسباب أخرى أدت إلى بروز بعض المشكلات التي بدأت تبرز في وجه قادة الأنظمة البديلة، لكنها، في تقديرنا، تعود في جوهرها إلى غياب مثل تلك المؤسسات المدنية التي نحن اليوم، في أمس الحاجة لها، أكثر من أي وقت مضى.
تثير اتهامات المرزوقي تلك أكثر من علامة استفهام كبيرة في ذهن من يتابع تطور الأوضاع في تونس، وهي الدولة التي انطلقت منها شرارة ما أصبح يعرف باسم «الربيع العربي»، الذي، عندما أشعل الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه، احتجاجاً على سوء الأوضاع في تونس تحت حكم بن علي، وترديها إلى درجة أدت إلى ارتفاع نسب البطالة، وتدهور الاقتصاد، وانتهى الأمر بسقوط ذلك النظام، ووصول التحالف الثلاثي إلى السلطة. الأمر ذاته تكرر، وبصور أخرى وسيناريوهات مختلفة، لكن النهايات كانت مماثلة، فتدحرج بعده نظام مبارك في مصر، وسقط حكم القذافي في ليبيا.
إذا يبقى السؤال ملحاً، ومازلنا عند الحالة التونسية، لماذا تعاد الاتهامات التي كانت توجه للأنظمة المطاح بها إلى الأنظمة التي استبدلتها، وفي مقدمة تلك الاتهامات «تسمية الأنصار سواء توفرت فيهم الكفاءة أم لم تتوفر»؟
هناك أسباب كثيرة يمكن للمرء أن يوردها لتفسير هذه الظاهرة، لكن ربما سنجد أنفسنا نلف وندور كي نرجع إلى سبب رئيس واحد هو «ضعف»، وفي بعض الحالات يصل الأمر إلى «انعدام»، دور المؤسسات المجتمعية الناضجة، ذات الأسس الراسخة التي بوسعها أن تمارس دور صمام الأمان الذي يضمن انتظام سير خطوات المجتمع على طريق تطوره، ويحول دون انحراف طبيعي يحتاجه ذلك المجتمع من أجل إعادة تنظيم صفوف مؤسساته، كي يعاود السير على تلك الطريق، من أجل الوصول إلى نهاياتها.
ونمط المؤسسات الذي نتحدث عنها، والتي بوسعها ممارسة ذلك الدور يفترض أن تتوفر فيها المواصفات التالية:
1- خضوعها الطوعي، المتفاعل إيجابياً وبصدق مع القوانين والتشريعات المعاصرة، المتكاملة مع الأنظمة الحديثة الموازية لها، التي تنظم عمل، وقبله إشهار، المؤسسات المجتمعية. ولابد من التأكيد هنا، والمجتمعات العربية إجمالاً، ماتزال في بداية الطريق، على الاستفادة مما وصلت إليه المجتمعات المتمدنة التي قطعت شوطاً طويلاً على تلك الطريق، كي لا يستجاب لدعوات «التميز الحضاري العربي» عن الحضارات الأخرى بشكل أعمى، فتكون على حساب التكوين الحضاري الصحيح لمثل تلك المؤسسات. ليس المقصود هنا طمس القيم الحضارية العربية الإسلامية المنغرسة عميقاً في سلوكنا، لكن بالمقابل، لا ينبغي أن يصل الأمر إلى درجة من التعصب الأعمى، الذي عانى منها تشكل العديد من تلك المؤسسات، فأتت النتائج عكسية، وقادتنا إلى ما نحن عليه اليوم. لقد راكمت المجتمعات البشرية، التي يفترض أن نكون نحن العرب من المنتسبين لها، تجارب غنية في هذا المضمار، من الخطأ اتخاذ موقف سلبي منها، والإصرار غير المبرر، على أن نلج الطريق من بدايتها، بدلاً من الانطلاق من نهايتها، مستفيدين من الكم الذي راكمته تلك الحضارات، وفي القلب منها ذلك الذي ساهمت به الحضارة العربية الإسلامية. إن غياب مثل تلك التشريعات يجرد من يسعى لبناء مجتمع متحضر يقوم أساساً على الدور الإيجابي لمؤسساته المدنية من أهم أسلحته التي يحتاجها، ويضعها بيد أعداء له، لا يكفون عن وضع العصي في دولاب ذلك التحول نحو العمل المؤسساتي، كي يضمنوا استمرار نفوذهم الفردي المنافي لعمل تلك المؤسسات.
2- عدم الارتهان للشكليات، والتقيد بالمقاييس الجوهرية. فليس المقصود بالمؤسسات تلك التي ترتهن إلى الآليات الشكلية التي تنحصر في مجرد التقيد بالإجراءت التنظيمية، على الرغم من أهميتها، وإهمال تلك المهنية. فوضع الأمور في نصابها يقتضي التمسك بمقاييس دقيقة تزرع الحيوية في كيان تلك المؤسسات كي تدافع عن مصالحها، التي هي بالضرورة متطابقة مع مصالح الأعضاء الذين شكلوها، عوضاً عن ممارسة العكس من ذلك، من خلال تجيير عمل تلك المؤسسات، وربما بدون وعي، كي تخدم مصالح الأفراد، فتأتي النتيجة مناقضة، عندما تأتي مصالح الأفراد في المقدمة، وهو ما تعاني منه مؤسسات المجتمع العربي، ومن بينها تونس، فتسبق مصلحة المؤسسة، وربما تستبدلها.
3- التركيز على محتوى برامج عمل تلك المؤسسات ووظائفها، بدلاً من الاهتمام بالشعارات التي ترفعها وعلو صوتها وبريق ألوانها. ففي الحالة الأولى وهي الصحيحة المعافاة، تستقطب المؤسسات أعضاءها، وتفرزهم بدقة وحصافة قبل أن تقبل انتسابهم إليها، بينما في الثانية، تنجر هي إلى من تعلو أصواتهم مرددين تلك الشعارات التي تتحول إلى مكونات جوفاء أفرغت من محتواها. يوفر التركيز على البرامج والوظائف مقاييس الاحتكام السليمة القادرة على تأمين عمليات الفرز الصائبة التي تميز بين مصلحة المؤسسة المعنية وانتهازية الأفراد التسلقية، وتؤمن في الوقت ذاته صمامات الأمان التي تقي المؤسسة من أمراض الانحراف عن الطريق، أو السقوط فريسة سهلة في أيدي الأفراد، أو أعوانهم ممن يسعون إلى جر المؤسسة لخدمة مصالحهم الذاتية، وبرامجهم الشخصية.
4- نبذ الإمعان في تسييس منظمات المجتمع المدني غير السياسية، والتمسك بسيرها على طريق برامجها المهنية والوظيفية، كما تحدده لها برامجها التي وضعها أفرادها من المهنيين الذي يفترض فيها أن تصب جهودها للدفاع عنه تلك المصالح، بعيداً عن أية برامج أخرى. ومنعاً لأي التباس هنا، فليس المقصود بذلك تجريد المهنيين من حقهم في ممارسة أدوارهم السياسية التي يفترض أن يبيحها لهم دستور البلاد والأنظمة والقوانين المنبثقة عنه، فهم بوسعهم القيام بذلك من خلال تنظيماتهم السياسية التي هي الأخرى عليها أن تتقيد، بأرقى المقاييس، ببرامجها ووظائفها التي حددتها لنفسها، دون أي خلط بينها وبين برامج ووظائف تلك المنظمات المدنية التي يفترض فيها المحافظة على المهنية التي أشرنا لها. يساعد التقيد بهذا التمييز ووضوحه، على عدم خلط الأوراق، ومن ثم يسد الطريق أمام أية محاول لشخصنة المؤسسات، مهنية كانت تلك المؤسسات أم سياسية.
ربما تكون هناك أسباب أخرى أدت إلى بروز بعض المشكلات التي بدأت تبرز في وجه قادة الأنظمة البديلة، لكنها، في تقديرنا، تعود في جوهرها إلى غياب مثل تلك المؤسسات المدنية التي نحن اليوم، في أمس الحاجة لها، أكثر من أي وقت مضى.