كتب - أمين صالح: عرضنا في مقال سابق لفيلم «البرتقالة الآلية» لستانلي كوبريك، ونواصل الحديث عنه في هذا المقال. وعن إمكان تماهي المتفرج مع الشخصية الرئيسية في فيلمه «البرتقالة الآلية» A Clockwork Orange ، يقول كوبريك (Sight and Sound, Spring 1972): «بالإضافة إلى الخاصيات التي ذكرتها، والتي تتعلق بشخصية أليكس، فإننا نجد هناك التماثل السيكولوجي، اللاواعي، مع أليكس. ربما نحن نتعرّف في أليكس على لا وعينا نحن. اللاوعي لا ضمير له. إذا أمعنت النظر في القصة، ليس على المستوى الاجتماعي والأخلاقي وإنما المستوى النفسي، فإنه يمكنك اعتبار أليكس كتجسيد لـ «الهذا» id (الجانب اللاشعوري من النفس والذي يعتبر مصدر الطاقة الغريزية أو البهيمية). إنه يوجد بداخلنا جميعاً، وهذا الإدراك، في أغلب الأحوال، يقدّم نوعاً من التقمص العاطفي، لكنه مع ذلك يثير القلق والغضب لدى أولئك الذين يعجزون عن قبول هذه الفكرة أو هذه الصورة عن أنفسهم، بالتالي يشعرون بغضب إزاء الفيلم. إن ذلك يشبه الملك الذي يقتل الرسول عندما يجلب له أنباءً سيئة بينما يكافئ الذي يجلب له أنباءً سعيدة». ثقل لقسوة أليكس إن العنف الذي تمارسه السلطات ضد أليكس، في مشاهد غسل الدماغ، يبدو أكثر عباً من كل الأفعال والممارسات التي ارتكبها أليكس. يقول كوبريك (المصدر نفسه): «كان من الضروري تماماً إضفاء ثقل لقسوة أليكس ووحشيته، وإلا فأعتقد بأنه سيكون هناك تشوش أخلاقي في ما يتعلق بما تفعله السلطات به. لو كان أقل شراً فسيرى المتفرج بأن عملية التكييف السيكولوجي التي يخضع لها هي فظيعة ومرعبة. لكن عندما تعرضه وهو يرتكب أفعالاً شنيعة ووحشية، ورغم ذلك يرى المتفرج بأن السلطات ترتكب في حقه إثماً أكبر وأكثر وحشية في تحويله إلى كائن آلي، لا إنساني، من أجل أن يكون طيباً وخيّراً، فعندئذ تكون الفكرة الأخلاقية الأساسية، المطروحة في الرواية، واضحة وجلية. من الضروري للإنسان أن يمتلك القدرة على الاختيار. أن يكون طيباً أو شريراً، حتى لو اختار الشر. إن حرمانه من هذا الاختيار يعني تجريده من صفة الإنسان وجعله مجرد برتقالة آلية. مغامرات أليكس هي ضرب من الأسطورة السيكولوجية. اللاوعي عندنا يجد الانعتاق في أليكس، تماماً كما يجد الانعتاق في الأحلام. اللاوعي يستاء عندما يرى السلطة تكبح أليكس وتقمعه وتخنقه، حتى لو كان عقلنا الواعي يدرك ضرورة أن تفعل السلطة ذلك. بنية القصة تشبه تماماً الحكاية الخرافية، بقدر ما تعتمد في كثير من سحرها، وعديد من مؤثراتها القوية، على الصدفة، وفي تناسق حبكته حيث كل ضحايا أليكس يظهرون ثانيةً في القسم الختامي، ليلقى جزاءه. القصة تعمل على مستوى آخر كهجاء اجتماعي يتعامل مع مسألة ما إذا السيكولوجيا السلوكية والتكييف السيكولوجي هما سلاحان جديدان خطيران بيد حكومة شمولية تستخدمهما لفرض سيطرة واسعة على مواطنيها وتحويلهم إلى كائنات آلية». العنف في الفيلم أسلوباً كثير من النقاد رأوا في عدد من المشاهد عنفاً مفرطاً. كوبريك يبرر قائلاً (المصدر نفسه ) : «العنف في الفيلم أسلوباً، تماماً كما في الرواية. معضلتي كانت في إيجاد طريقة لتصويره في الفيلم دون الاستعانة بأسلوب الرواية. القسم الأول من الفيلم، الذي يجسد أغلب الفعل العنيف، هو منظم في الدرجة الأولى حول افتتاحية موسيقى روسيني (الغراب السارق). وبالمعنى الأوسع، يمكن القول أن العنف يتحول إلى رقص. الحركة والموسيقى مرتبطان، على نحو محتوم، بالرقص، تماماً مثلما تتحرك المحطة الفضائية والسفينة الفضائية وفقاً لموسيقى (الدانوب الأزرق) في فيلم (أوديسة الفضاء)». ويضيف : «أعتقد أن الخطر يكمن في أن السلطة المؤسسة، من أجل أن تصون نفسها، ستصبح قمعية جداً. القانون والنظام ليسا مسألة زائفة، ليسا مجرد عذر لليمين كي يمضي يميناً إلى حد أبعد. هذا يمثّل مشكلة في مدينة مثل نيويورك، حيث الناس يشعرون باللا أمان. أحد الأشياء التي تتوقعها من المجتمع، عندما تتنازل عن حقوقك كفرد، هو توفير الأمان والحياة المادية المريحة. عندما يعجز المجتمع عن ضمان ذلك، فإن الناس في آخر الأمر سيزدادون قلقاً، وقد يقْدمون على بعض الخيارات اللا عقلانية جداً». العنف في المجتمع عن مدى تأثير عنف الشاشة اجتماعياً ونفسياً، علّق كوبريك قائلا (المصدر نفسه) : «ليس ثمة برهان قاطع وفعلي على أن العنف في السينما أو التلفزيون يسبب عنفاً في المجتمع. إن تركيز بؤرة الاهتمام على هذا المظهر من العنف إنما يعني تجاهلاً للأسباب الرئيسية. إن محاولة إلقاء اللوم على الفن وتحميله مسؤولية كل ما يحدث من رذائل في الحياة، هو أمر غير معقول وغير مقنع على الإطلاق. الفن يعيد صياغة أو تشكيل الحياة لكنه لا يخلق الحياة. عندما تُنسب إلى فيلم ما خاصيات إيحائية قوية، فإن ذلك يتعارض مع الفكرة المسلّم بها علمياً والتي مفادها أن الفرد لا يمارس أشياء تتناقض مع طبيعته حتى لو كان خاضعاً لحالة تنويم مغناطيسي. أنا لا أقر بأن هناك علاقة بين العنف على الشاشة والعنف في المجتمع، لكن إذا افترضنا أن هناك صلة ما فسأشير إلى ذلك النوع من العنف الذي قد يحرّض البعض على محاكاته، وأعني العنف الهزلي: ذلك النوع من العنف الذي نشاهده في أفلام جيمس بوند أو مسلسلات توم وجيري الكرتونية. إنه العنف اللا واقعي، العنف المعقّم، المعروض كمزحة. مع ذلك فأنا مقتنع تماماً بأن حتى هذا النوع لا يملك تأثيراً، بل قد يدعم الرأي القائل بأن العنف على الشاشة يحقق غرضاً اجتماعياً حيث يتيح للمرء المجال لتحرير نفسه، من طريق وسيلة بديلة، أو التنفيس عنها في الأحلام أو في الحالات الشبيهة بالحلم، كمشاهدة فيلم مثلاً، عوضاً عن تصعيدها في الواقع». من جهة أخرى «مع أن هناك قدراً معيناً من النفاق بشأن عنف الشاشة، إلا أن كل شخص يشعر بافتتان إزاء العنف. الإنسان هو القاتل الأكثر قسوة ووحشية من بين كل القتلة الذين جابوا الأرض منذ القدم. اهتمامنا بالعنف يعكس جزئياً حقيقة أننا على مستوى ما دون الوعي، لا نختلف إلا قليلاً عن أسلافنا البدائيين». المونتاج مرحلة فريدة قضى كوبريك، كحد أدنى، عشر ساعات كل يوم تقريباً، لمدة ستة شهور، وهو يعمل على مونتاج فيلمه. المونتاج هو الجزء المفضّل لديه في عملية تحقيق الفيلم. إنها المرحلة الفريدة الوحيدة في صنع الفيلم لأنها لا تشبه أي شكل فني آخر. وهو يرى أن الطريقة التي بها يتم مونتاج الفيلم يمكن أن تخلق الفيلم أو تحطمه. يقول (The Movie Makers: Artists in the Industry, 1973): «عندما أتولى عملية المونتاج، تتغيّر هويتي من الكاتب أو المخرج إلى المونيتير. لا أعود مهتماً بمسألة كم من الوقت أو المال كلّف تصوير المشهد، أو المشقة والصعوبة التي واجهتها في تصوير اللقطة. إني أنظر إلى المادة بعينين مختلفتين تماما. إذا اتضح أن هذا المشهد سيء فإنني أحذفه. إني أتخلص من أي شيء لا يُسهم في التأثير الكلي للفيلم».