بين الحين والآخر تنبري بعض الأصوات السياسية والإعلامية مبدية تذمرها مما شهدته المنطقة العربية من أحداث أصبحت تعرف باسم “الربيع العربي”، متحسرة على الأيام التي مضت، مستعينة ببعض الأرقام والحوادث التي تثبت أن ما شهدته المنطقة العربية، وما ينتظرها في المستقبل، لن يكون أحسن، بل ربما أسوأ مما كانت عليه الحال قبل أن يشعل التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه، ويقود ذلك إلى ما أصبح يعرف بـ “ثورة الياسمين التونسية”، التي امتدت ألسنة لهيبها كي تطيح بنظام القذافي في ليبيا، وتعزل مبارك عن السلطة في مصر، بعد أن أرغمت بن علي على التنحي عن الحكم، ومغادرة البلاد.
ربما يكون من المبكر وضع تلك التطورات، وما آلت إليه الأمور في تلك الدول العربية في الميزان للحكم عليها بعد تقويمها بشكل علمي متكامل، فهي بحاجة لمزيد من الوقت كي تكشف جميع أوراقها، وتفصح عن برامجها، سياسية كانت تلك البرامج أم اقتصادية، بل وحتى الاجتماعية. لكن ذلك لا يعفي من يريد أن يستشف ما هو مقبل، أن يضع لنفسه مداخل يقيس ما جرى من منظار موضوعي متجرد من أية أحكام مسبقة تشوه ذلك التقويم، أو إسقاطات مستقبلية تحرف النتائج التي يمكن الوصول لها.
نقطة الانطلاقة لمن يريد أن يكون موضوعياً هي أن كل ما شهدته المنطقة من أحداث، إنما هو استجابة موضوعية لحاجة ملحة للتغيير في منطقة عرفت الركود لما يزيد على نصف قرن، في مرحلة عصفت الأحداث بمناطق أخرى في العالم، وأحدثت فيها تغييرات بنيوية تفوق، حتى الآن ما شهدته الدول العربية دون أي استثناء. نظرة إلى الكتلة السوفيتية، وإطلالة على الأوضاع في الشرق الأقصى، وتمعن في ما جرى حتى في الولايات المتحدة تكفي للتدليل على أن العالم برمته، وليس المنطقة العربية، كان بحاجة موضوعية إلى تغيير نوعي، يمس صلب الآليات التي تسير العلاقة الداخلية المحلية لكل بلد أو كتلة سياسية على حدة، وفيما بين دوله على صعيد آخر. لقد تهاوى الاتحاد السوفيتي وتفككت منظومته التي كانت تحت القبضة الروسية إلى دول متناثرة، تشظى البعض منها مثل تشيكوسلوفكيا إلى أكثر من دولة، وتحررت فيتنام وتوحدت ونهضت اقتصادياً، وازدهرت الصين وولجت الأسواق العالمية بعد أن كسرت قيود النظام الاشتراكي التي كانت تكبل حركتها، ووصل إلى الرئاسة في الولايات المتحدة مرشح “أسود” ينحدر من أصول “زنجية”، ممزوجة بجذور إسلامية.
كل ذلك والمنطقة العربية تغط في سبات نوم عميق، مكتفية ببعض التحولات الطفيفة المغرقة في الحديث عن الماضي ومناقشة إشراقاته، متحاشية معالجة الحاضر والنظر في تحدياته. كان لهذا الواقع أن يستمر، ويشهد تحولات بوتائر بطيئة، لولا أن العرب كانوا في موقع جغرافي مختلف، ولو أن النفط لم يكتشف في أراضيهم. فموقعهم الجغرافي الاستراتيجي، كاد يجبرهم، موضوعياً، على الاحتكاك بتلك الأحداث، وخاصة تلك التي عرفتها أوروبا، ويزج بهم في أتونها، ولا يستطيع من يشاء منهم، أن يحمي نفسه من رياح عواصفها. ولهذ السبب لم يكن في وسع المنطقة العربية أن تبقى ساكنة، والعالم المحيط بها، والمتصل بقواها الاجتماعية يلح على رؤيتها تتغير، بعد أن سأم من مشاهدتها وهي ساكنة تجتر أحلام الماضي، وترفض الانصياع لقيم الحاضر، وقوانين المستقبل، وجميعها تشكل عقبات في وجه استمرار العلاقة بين الطرفين بعد التغيرات التي عرفها الطرف الأول، والذي هو دول العالم الأخرى.
هذا على الصعيد السياسي أما على الصعيد الاقتصادي، فقد شاء القدر أن تحتضن أراضي المنطقة العربية النفط، وبكميات غزيرة، واحتياطيات ضخمة، وشاء القدر أيضاً أن يكون النفط، بخلاف مواد خام أخرى كثيرة، سلعة استراتيجية في الأسواق العالمية، مما وضع العرب في قلب صناعة قرارات دولية استراتيجية، لم يعودوا قادرين، بحكم البنى التحتية والفوقية التي تسير اقتصادهم، وتحدد آليات صنع القرار المتعلق بذلك الاقتصاد، وفي المقدمة منه الاقتصاد النفطي، على مواكبة التحولات التي شهدتها سوق النفط العالمية، بما يتطلبه ذلك من شفافية عالية، مصحوبة بسرعة فائقة في صنع القرار وتنفيذه، وملاحقة تبعاته وانعكاساته على حد سواء.
تفاعل العاملين الاقتصادي والسياسي، بعمق مع القوى الاجتماعية الشابة التي زجت بها ثورة الاتصالات والمعلومات في أتون التحولات الموضوعية التي تحتاجها تلك الثورة، ووجدت تلك القوى الشابة، مضطرة، كي تلبي احتياجات تلك الثورة، وتتفاعل معها، وبالزخم الذي تقتضيه آلياتها، على الدعوة للتغيير المطلوب، الذي لم يعد هناك مناص من الاستجابة لقوانينه، وبالسرعة المناسبة التي تحتاج لها تلك القوانين.
من هنا لابد لنا من الاعتراف بأن التغيير الذي شهدته، وسوف تشهده المنطقة العربية، ربما جاء متأخراً بعض الوقت، وبأنه كان من المفترض أن تهب رياح التغيير في محطات أخرى، كانت بمثابة نواقيس دقت أجراسها، لكن القوى الاجتماعية العربية لم تكن حينها مهيأة ذاتياً، وغير مستعدة موضوعياً للبدء في عملية التغييرالمطلوبة. فلم تكن هزيمة 1967 سوى مؤشر قوي على الحاجة لمثل ذلك التغيير النوعي الذي وأدته القوى المناهضة للتغيير، والممسكة بزمام الأمور، حينها، قبل أن يرى النور. ثم جاء الغزو العراقي للكويت كي ينذرالعرب بأن المنظومة العربية لم تعد قادرة على الاستمرار في عملها، وهي بحاجة إلى إعادة هيكلة جذرية. ومرة أخرى لم تكن الظروف حينها ناضجة إلى درجة تصل فيها الأمور إلى نقطة التحول النوعي المطلوبة، لإحداث ذلك التغيير الموضوعي.
اليوم، وبعد أن فرض التغيير نفسه بالقوة، فأزاح من تشبث بمواقعه، وأصر على الوقوف في وجه عواصف كانت رياحها أعتى من قدراته على الصمود فاجتثته من الجذور، وأتت بقوى جديدة في بنيتها الاجتماعية، وتكوينها السياسي، وانتماءاتها النظرية، فمن الطبيعي أن تواجه هذه القوى الجديدة نفسها أمام الخيارات ذاتها التي أطاحت بالقوى القديمة، وبالتالي فإن نجاح أو فشل الأنظمة الجديدة التي قامت على أنقاض تلك التي أسقطتها، رهن بقدرتها على الاستجابة لمتطلبات التغيير، وعلى الصعد كافة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على حد سواء.
على أرضية تلك الفرضية المنطلقة من موضوعية التغييرات التي تحتاجها المنطقة العربية، وفي ضوء مقاييس علمية صارمة للحكم على ما أنجزته، وما أخفقت في إنجازه القوى التي تقف وراء “الربيع العربي”، وحصدت نهاياته، يمكن أن نضع مقاييس الحكم، ومعايير التقويم، دون أن يشوبها تحسرات غير منطقية على ماض تليد، ولا إفراط مغرق في التفاؤل نحو مستقبل قادم.
بطبيعة الحال، التركيز على الانطلاق من دور موضوعية التغيير، بعيداً عن الإرادة الذاتية، لا يلغي دور هذه الأخيرة، لكنه يتطلب وضعها في إطارها الصحيح، ويعطيها الحجم الذي تستحقه، في نطاق تلك الموضوعية التي ندعو لفهمها أولاً، والتقيد بمقاييسها ثانياً وليس أخيراً. فمثل هذا المدخل سيعيننا كثيراً على تقويم الحاضر، واستقراء المستقبل، ورؤيتهما بشكل متكامل وبالوضوح المطلوب.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}