تواجه مصر بعد انتخاب الرئيس الجديد محمد مرسي عدة تحديات على الصعيدين الداخلي وعلى الصعيد الخارجي، وفي رأينا من الصعب فصل المسارين الداخلي والخارجي عن بعضهما. صحيح أن التحديات الداخلية تتعلق بتكوين جبهة عريضة من مكونات المجتمع السياسي في مصر لمواجهة الاستحقاقات الصعبة علي الصعيدين السياسي الخارجي والاقتصادي داخلياً، كما إن التحدي على الصعيد الاقتصادي يكمن في المحافظة على استقلالية القرار ورفض التبعية، فالثورة المضادة ستستغل الضيق الاقتصادي لتقويض القرار الوطني، وستربط المساعدات الاقتصادية والمالية التي يمكن منحها لمصر بسلسلة من القرارات التي تضمن تحييد مصر ومنعها من استعادة دوريها الإقليمي والدولي.
المحطة الأساسية تكمن فيما يسمى مسألة المحافظة على المعاهدات الدولية التي أبرمتها مصر خلال السنوات الأربعين الماضية، والحجة هنا هي ديمومة واستمرارية الدولة في المحافظة على معاهداتها مع المجتمع الدولي، فبالنسبة لنا نرى تناقضاً كبيراً بين أهداف ثورة يناير وتأكيد الالتزام بالمعاهدات، فإذا كانت شعارات الثورة التي رفعت في مختلف ميادين مصر مازالت تنادي برفض التبعية، وإذا كان الرئيس الجديد يردد أن شرعيته ليست فقط من صناديق الاقتراع بل مما يسميه الشرعية الثورية، فكيف يمكن عندئذ المحافظة علي المعاهدات التي كرست التبعية للخارج؟ والمقصود هنا بكل وضوح معاهدة كامب ديفيد المشؤومة التي كانت وظيفتها الأولى والأهم إخراج مصر من دائرة الصراع العربي الصهيوني تمهيداً لإخراجها عن أي دور قومي وإقليمي ودولي، ولا نعتقد أن استرجاع سيناء على حساب ذلك الدور هو الذي حقق الأمن والاستقرار والكرامة لمصر ولشعب مصر العربي.
أما اليوم فنعتقد أن الغرب بشكل عام ومعه الكيان الصهيوني وبعض الحكومات العربية لن يكتفوا بذلك الوضع، فالغرب وشركاؤه يخافون من قرار الشعب الذي عاجلاً أو آجلاً سيطرح على بساط البحث جميع الالتزامات الدولية المجحفة بحق مصر وبأمنها القومي، بما فيها معاهدة كامب ديفيد، فمن جهة سيمارسون كل أشكال الابتزاز للحول دون مراجعة تلك الالتزامات، وفي جعبة الابتزاز التلويح المبطن أو المعلن حسب الحاجة بإثارة النعرات التفتيتية التي تهدد وحدة نسيج المجتمع في مصر، فإلغاء دورها القومي في المرحلة السابقة لم يعد كافياً، بل ربما المطلوب إلغاء مصر دولة ومؤسسات خاصة جيشها.
الخطاب السياسي في المحافل الدولية، خاصة في مراكز الأبحاث الغربية، تشدد على ثنائيات تناقضية كالجيش والمجتمع المدني، والأكثرية المسلمة والأقلية المسيحية.. إلى ما يمكن اختراعه من تناقضات وهويات فرعية مدمرة.
وفي رأينا ليست من دولة غربية أو مؤسسة دولية مالية تستطيع أن تنقذ مصر من الضيق الاقتصادي الذي صنعته سياسات مدمرة للبنية الإنتاجية في مصر، كما إننا نشك بأن دول الجزيرة العربية ستكون سخية في إنقاذ مصر، لأنها تخشى عودة مصر إلى قيادة الأمة. الحل للأزمة الاقتصادية يكمن في إعادة هيكلة البنية الاقتصادية لمصلحة القطاعات الإنتاجية وذلك على حساب القطاعات الريعية الطفيلية، وتمويل إعادة الهيكلة يكون داخلياً عبر تعبئة المدخرات الوطنية، لكن هذه الخطوات تشكل في رأينا شرط ضرورة وليست شرط كفاية. إن ما يجب أن تقوم به القوى الشعبية والنخب الحاكمة هو أن تدخل في قاموسها مجدداً مصطلح الوحدة، والوحدة ليست شتيمة بل هدفاً أساساً للمشروع النهضوي العربي، وهي ليست حلماً؛ بل ضرورة واقعية تسهم في حل مشكلات الأمة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، على كل حال هذا اقتناعنا ولن نحيد عنه وإن كان تحقيقه يستلزم الوقت والمراحل المدروسة.
فالمرحلة الأولى تكمن في الوحدة الاقتصادية مع كل من السودان وليبيا، والوحدة الاقتصادية قرار سياسي استراتيجي يصون الأقطار المعنية. المتضررون من تلك الوحدة هم رموز القطاعات الريعية الطفيلية الذين يجنون من خلالها ثروات طائلة دون مجهود، وذلك على حساب الشعب، وبالتالي سيقاومون في جميع المحافل تلك الدعوة الوحدوية بأنها طوباوية أو غير واقعية أو أنها سابقة لأوانها، أو أن البنى الاقتصادية غير متكاملة إلى كل ما يمكن استخراجه من جعبة القوى الانفصالية لمنع الدعوة الوحدوية.
الوحدة الاقتصادية تبدأ بعملية تشييد البنى التحتية؛ خاصة شبكات الطاقة والنفط والغاز وسكك الحديد وشبكات المياه والري، كما إن التنسيق تمهيداً لتوحيد للسياسات المالية والنقدية والتجارية وضرورة لتحقيق السوق المشتركة التي توسع قمة الرقعة الجغرافية للإنتاج والتوزيع، وتؤمن وفورات الحجم. تحقيق هذه المشروعات يوجد فرصاً للعمل ويخفف من عبء البطالة المعلنة والمقنعة ويعيد الثقة والكرامة لجميع المواطنين، لكن الفائدة الأهم للوحدة الاقتصادية هي تحصين استقلالية القرار الوطني من مختلف محاولات فرض التبعية والسياسات المجحفة بحق جماهير الأقطار الثلاثة.
نعي أن هناك صعوبات داخلية في كل من الأقطار الثلاثة، كما إن الغرب والكيان الصهيوني وبعض الدول العربية لن تنظر بعين الرضا قيام عملاق اقتصادي عربي على قاعدة الإنتاج وليس على قاعدة الريع، كما إن قيام تلك الكتلة الاقتصادية ستعطي دفعاً كبيراً لإعادة التوازن في الإقليم وعلى الصعيد الدولي. نعيش الآن في حقبة التكتلات الاقتصادية الكبيرة، والدعوة لقيام تلك الوحدة الاقتصادية بين الأقطار الثلاثة تمهد لقيام الكتلة الأكبر بين هذه الكتلة، وكتلة بلاد الشام وبلاد الرافدين، وكتلة الاتحاد المغربي، هذه هي بوصلتنا التي ستمكن الأمة من تحرير جميع أراضيها من الاستعمار المباشر وغير المباشر وتحرر أرض فلسطين وتعيد كرامة الإنسان العربي لتحقيق مشروعه النهضوي.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}