في بحثي الدائم عن مفهوم الصوم دائماً ما أتوقف عنده أولاً كلغة؛ والذي يعني الإمساك عن الكلام، وأتوقف عند قوله تعالى عن مريم (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) (26)، حيث جاء صومها عن عدم الحديث مع الآخرين أو الإمساك عن الكلام، وعليه جاء القول: صامت عليه الأرض، أي: أمسكته. وثانياً من الناحية الشرعية والذي يعني التعبد لله عز وجل بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
الإمساك عن الكلام يعني التوقف عن التفكير اليومي في الرد، ونحن نعرف جميعاً أن هناك حالات نادرة من الناس القادرين على عدم الإجابة على سؤال وجه إليهم.
الإمساك عن الكلام وما يحمله من معاني كثيرة منها الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والغضب والحقد والحسد والغيرة. ما ظهر منها أو استتر، والنظر إلى المحرمات. كل هذه الأشياء وغيرها تقربنا إلى المعنى الحقيقي من الصوم.
والامتناع أو الإمساك عن الأكل هو أقلها، إن المجاهدة الحقيقية ليست في الامتناع عن الشرب والأكل لعدة ساعات قد تطول وتقصر، لكن الامتناع بصورة كلية عن الرد على السفاسف من الأمور وتوافهها، من هنا جاء الحديث الكريم ليؤكد على احترام الذات قبل احترام الآخرين، لذلك يصوم عن الكلام هو أهم أنماط الصوم.
روى البخاري في جامعه قال حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَ)، تجويع المعدة عن الأكل بداية لتنظيفها ومن ثم الجسد من الركام الهائل من المخلفات التي تلصق بجدران المعدة، وتؤثر على انسداد مسارات الطاقة في الجسد، الكبد، القلب، الطحال، الكلية، وبالتالي تعطيلها عن عملها الذي تقوم بتنفيذه طوال الليل والنهار.
أما الصوم القلبي والذهني والروحي وهو الكف التام عن الرد على كل ما يمكن أن يسيء إلى الإنسان الصائم، فإنه يدخلك في مسارات القوة الروحية التي هي الأساس لكل القوى الأخرى التي يحملها أي إنسان، والتي أطلق عليها القوة الكبرى أو مركز الإشعاع في بقية الجسد.
إذا علمت نفسك ما ذكرته سيدتنا مريم (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) وبقيت على هذه الحالة لهذه المدة، ثق بأنك ستكون قادراً على السيطرة على حياتك وتستطيع أن تحقق أحلامك التي زرعتها في حقل عقلك.
صم عن الكلام إلا كلام الخير، وابتعد عن الحديث في الأوهام واتبع أهدافك تلك المربوطة بالأحلام وغير الأحلام، واشعل شمعة المحبة الكونية وأضئ داخلك بالنور الدائم ستجد كل ما ترغب بين يديك.