نكمل في الجزء الثالث من المقال حديثنا عن حركة “عدم الانحياز” في القرن الحادي والعشرين، وأنني كباحث في قضايا “عدم الانحياز” ومهتم بمتابعتها عبر الخمسين سنة الماضية، أقول إنه من واقع الخبرة العملية إن معظم الذين صاغوا الوثيقة الختامية لمؤتمر قمة طهران السادس عشر لحركة دول “عدم الانحياز”، لم يقرؤها، ومن قرؤها لا يرغبون في فتح أعينهم لمواجهة الواقع، ومن هنا تنبع أزمة المصداقية، وأن المشكلة الحقيقية في الحركة هي طابع المجاملة من ناحية، وطابع الاستئثار من ناحية أخرى، والشللية من ناحية ثالثة، فالمجاملة تجدها في تكرار الفقرات التي تشيد بهذه الدولة أو تلك، لمجرد عقد اجتماع لديها، حتى يظهر اسمها في وثيقة لا يقرؤها الكثيرون- والاستئثار والشللية مرتبطين بمجموعات معينة من الدول، ما زالت تعيش في القرن العشرين، عندما كانت حركة عدم الانحياز بقادتها الرواد ملء السمع والبصر، ولهم قول موزون إلى حد ما أو عن الإشادة ببعض الإنجازات التي تحققت من عقد هذا المؤتمر أو ذاك، ولذا يدبجون التصريحات، وينشر كتابهم المقالات التي تشوه الواقع أو تجمله، كما يقول بعض الكتاب غير المدققين علمياً، متناسين أن تجميل الواقع هو جريمة سياسية كبرى، في حق الأوطان، بل وفي حق الحكام، لأنهم يعيشون في خداع، بعيداً عن الحقيقة، وهذا ما حدث في بعض ثورات الربيع العربي.
إنه منذ زمن بعيد يكاد لا يسمع عن الحركة أي متخصص أو متابع للشؤون السياسية أو الاقتصادية الدولية، ولا تكاد تجد فقرة عن الحركة في أي كتاب أكاديمي في السياسة الدولية، والأنكى من ذلك أن المرء يجد فقرات في البيان تتحدث عما حدث في هذه الدولة أو تلك منذ أكثر من 10 سنوات وتعبر عن إدانة المؤتمر لعمل إرهابي وقع منذ 10 سنين وربما أكثر.
وفي تقديري كباحث متخصص في الشؤون الدولية انه كان أجدى بقمة طهران أن تنشر وثيقة موجزة من 10 صفحات على الأكثر تقول فيها، هذا ما اتفقنا عليه، وهذا ما سوف نسعى لعمله ونلتزم به، بدلاً من الصفحات المائتين تقريباً التي لن يقرؤها الكثيرون ممن اعتمدوها وثيقة رسمية، وكذلك كان أجدى بقمة طهران أن تأخذ منحى مختلفاً بأن تقول نحن دول الحركة نقرر احترام حقوق الإنسان، ونعاقب من ينتهكها من دولنا، وأن نحترم قواعد القانون الدولي ونعاقب من يخالف ذلك، ونقيم الحكم الديمقراطي الرشيد ونعاقب المستبدين والمزورين للانتخابات ومن ينتهكون حقوق الإنسان، أما ما هو حادث الآن فهو توجيه اتهام للدول الأخرى غير الأعضاء في الحركة، فرغم أنهم ربما يستحقون ذلك، ولكنه لن يفيد الحركة ولن يخدم مبادئها وأهدافها، أنه في تقديري المطلوب هو مراجعة صادقة مع النفس لاكتشاف عيوبها من بين صفوف الحركة والسعي لإصلاحها.
وكما قال الشاعر العربي: نعيب زماننا والعيب فينا.. وليس لزماننا عيب سوانا. أو كما غنت كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم:
«يا عيني على الحب وحلاوته، العيب فيكوا، يا في حبايبكوا، أما الحب يا عيني عليه”.
فالعيب إذن ليس في مبادئ الحركة وأهدافها، وإنما العيب في أعضائها المغيبين، الذين اتخذوها شعاراً ولم ينفذوا تلك المبادئ العظيمة والذين يعيشون في أدبيات يسطرونها وقد تجاوزها الزمن.
وعندما كنت أعمل في وفد مصر في الأمم المتحدة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كانت هناك- وكالة سياحة - هذه عبارة تهكمية كانت تقال في أروقة الأمم المتحدة- اسمها” وكالة ناميبيا للسياحة” وكان بعض الدبلوماسيين العاملين فيها هم أضعف في قدراتهم، ربما ليس عيباً فيهم، ولكن الظروف وضعتهم كذلك واستمتعوا بنتائجها ومزاياها، وذلك أن الأمم المتحدة أنشأت بحسن نية لجنة خاصة تعمل من أجل استقلال ناميبيا، عندما كانت تحت الحكم العنصري لجنوب أفريقيا العنصرية، وهذه اللجنة كانت متخصصة في القيام بزيارات للعديد من دول العالم دعاية لناميبيا واستقلالها، وتحصل على بدلات سفر وخلافه، ولا تفعل شيئاً ملموساً سوى كتابة تقارير مطولة توضع في أدراج الأمم المتحدة، أما الذي حرر ناميبيا فهو شعبها البطل، وأصبحت الآن قوة في القارة الأفريقية، وهكذا فإنه يتم إنشاء بعض اللجان والمنظمات والجمعيات في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية، بل وفي بعض الدول أيضاً، وتظل قائمة حتى بعد انتهاء الهدف من قيامها لأنها تحولت إلى جمعية من المنتفعين.
وإذ كان مؤتمر القمة السادس عشر في طهران صادقاً مع نفسه، ورغب المشاركون فيه في دخول التاريخ الحقيقي فكان يجب عليهم إلغاء ثلاثة أرباع الوثيقة المقترحة وتلخيص الربع الباقي، وإصدار إعلان بالأمن والسلام بين دوله، وإدانة الاعتداء من أية دولة عضو على أخرى بالقول أو العمل أو بالتحريض المباشر أو غير المباشر الإعلامي والسياسي وخلافه ووقف المهاترات والاتهامات المتبادلة بين كثير من الأعضاء والعمل ضد بعضهم بعضاً.
وأكاد أجزم بأنه لن يحدث هذا الأمل الذي أنشده في المستقبل، وسوف تستمر المنازعات والتخلف لأن جمعية المنتفعين لا ترغب في مواجهة الحقائق، والآخرون لا يرغبون في إيقاظ النيام، والقافلة سوف تسير على غير هدى.
^ متخصص في الدراسات الدولية والاستراتيجية
{{ article.visit_count }}
إنه منذ زمن بعيد يكاد لا يسمع عن الحركة أي متخصص أو متابع للشؤون السياسية أو الاقتصادية الدولية، ولا تكاد تجد فقرة عن الحركة في أي كتاب أكاديمي في السياسة الدولية، والأنكى من ذلك أن المرء يجد فقرات في البيان تتحدث عما حدث في هذه الدولة أو تلك منذ أكثر من 10 سنوات وتعبر عن إدانة المؤتمر لعمل إرهابي وقع منذ 10 سنين وربما أكثر.
وفي تقديري كباحث متخصص في الشؤون الدولية انه كان أجدى بقمة طهران أن تنشر وثيقة موجزة من 10 صفحات على الأكثر تقول فيها، هذا ما اتفقنا عليه، وهذا ما سوف نسعى لعمله ونلتزم به، بدلاً من الصفحات المائتين تقريباً التي لن يقرؤها الكثيرون ممن اعتمدوها وثيقة رسمية، وكذلك كان أجدى بقمة طهران أن تأخذ منحى مختلفاً بأن تقول نحن دول الحركة نقرر احترام حقوق الإنسان، ونعاقب من ينتهكها من دولنا، وأن نحترم قواعد القانون الدولي ونعاقب من يخالف ذلك، ونقيم الحكم الديمقراطي الرشيد ونعاقب المستبدين والمزورين للانتخابات ومن ينتهكون حقوق الإنسان، أما ما هو حادث الآن فهو توجيه اتهام للدول الأخرى غير الأعضاء في الحركة، فرغم أنهم ربما يستحقون ذلك، ولكنه لن يفيد الحركة ولن يخدم مبادئها وأهدافها، أنه في تقديري المطلوب هو مراجعة صادقة مع النفس لاكتشاف عيوبها من بين صفوف الحركة والسعي لإصلاحها.
وكما قال الشاعر العربي: نعيب زماننا والعيب فينا.. وليس لزماننا عيب سوانا. أو كما غنت كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم:
«يا عيني على الحب وحلاوته، العيب فيكوا، يا في حبايبكوا، أما الحب يا عيني عليه”.
فالعيب إذن ليس في مبادئ الحركة وأهدافها، وإنما العيب في أعضائها المغيبين، الذين اتخذوها شعاراً ولم ينفذوا تلك المبادئ العظيمة والذين يعيشون في أدبيات يسطرونها وقد تجاوزها الزمن.
وعندما كنت أعمل في وفد مصر في الأمم المتحدة في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي كانت هناك- وكالة سياحة - هذه عبارة تهكمية كانت تقال في أروقة الأمم المتحدة- اسمها” وكالة ناميبيا للسياحة” وكان بعض الدبلوماسيين العاملين فيها هم أضعف في قدراتهم، ربما ليس عيباً فيهم، ولكن الظروف وضعتهم كذلك واستمتعوا بنتائجها ومزاياها، وذلك أن الأمم المتحدة أنشأت بحسن نية لجنة خاصة تعمل من أجل استقلال ناميبيا، عندما كانت تحت الحكم العنصري لجنوب أفريقيا العنصرية، وهذه اللجنة كانت متخصصة في القيام بزيارات للعديد من دول العالم دعاية لناميبيا واستقلالها، وتحصل على بدلات سفر وخلافه، ولا تفعل شيئاً ملموساً سوى كتابة تقارير مطولة توضع في أدراج الأمم المتحدة، أما الذي حرر ناميبيا فهو شعبها البطل، وأصبحت الآن قوة في القارة الأفريقية، وهكذا فإنه يتم إنشاء بعض اللجان والمنظمات والجمعيات في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية، بل وفي بعض الدول أيضاً، وتظل قائمة حتى بعد انتهاء الهدف من قيامها لأنها تحولت إلى جمعية من المنتفعين.
وإذ كان مؤتمر القمة السادس عشر في طهران صادقاً مع نفسه، ورغب المشاركون فيه في دخول التاريخ الحقيقي فكان يجب عليهم إلغاء ثلاثة أرباع الوثيقة المقترحة وتلخيص الربع الباقي، وإصدار إعلان بالأمن والسلام بين دوله، وإدانة الاعتداء من أية دولة عضو على أخرى بالقول أو العمل أو بالتحريض المباشر أو غير المباشر الإعلامي والسياسي وخلافه ووقف المهاترات والاتهامات المتبادلة بين كثير من الأعضاء والعمل ضد بعضهم بعضاً.
وأكاد أجزم بأنه لن يحدث هذا الأمل الذي أنشده في المستقبل، وسوف تستمر المنازعات والتخلف لأن جمعية المنتفعين لا ترغب في مواجهة الحقائق، والآخرون لا يرغبون في إيقاظ النيام، والقافلة سوف تسير على غير هدى.
^ متخصص في الدراسات الدولية والاستراتيجية