كلنا شاهد أو سمع عن البرنامج المصري الشهير «أرجوك متفتيش»، هذا البرنامج الذي صيغ في قالب كوميدي، يتحدث في الواقع عن تراجيديا بشعة لطريقة التفكير التي ينتهجها الكثير من الناس، حين يرون أنفسهم أنهم يعلمون كل شيء، كما ليس هنالك من سؤال ممنوع وجواب ممنوع عندهم.
هؤلاء المفتون الذين تحدثوا عبر البرنامج، كانوا محط سخرية من قِبل المشاهدين في كافة أنحاء الوطن العربي، لأنهم أفتوا بغير علم، فهم يحسبون أنهم يعرفون كل شيء ويفتون في علوم وهمية، ويا ليتها كانت علوماً حقيقية، وإنما هي أسئلة وهمية، وجدت طريقاً للإجابة عليها من قبل أناس «ما تختشيش».
هذه العيِّنات الطفيلية من المفتين في وطننا العربي، نجدهم أمامنا في كل مكان، بدءاً من البيت والشارع والعمل، وانتهاءً بالأصدقاء والفقهاء والعلماء، فلا شيء إلا وله جواب عند هؤلاء الناس، بينما الحديث يقول «نصف العلم أن تقول لا أعلم».
يعتقد الإنسان العربي حين يقول «لا أعلم» أن مكانته سوف تُنتقص من قبل المجتمع، خصوصاً حين يكون هذا الشخص من أصحاب الكفاءات العلمية، فيتوهم عندئذ أن الناس سوف تزدريه، وتقلل من شأنه ومكانته العلمية، لكن في الحقيقة يظل الاعتراف بالعجز والضعف أرقى أنواع التواضع، وأسمى أشكال الشفافية مع الذات ومع الآخر.
هنالك أمور لو أفتى البعض فيها بطريقة خاطئة، لن يكون من ورائها سوى التهكم والضحك لا غير، لكن هناك أموراً لو أفتى فيها من ليس أهلاً للفتوى، فإنه يعرض حياة الناس للخطر الشديد، تماماً كمن يفتي في الطب أو يوصف علاجاً لمريض وهو ليس بطبيب، أو كمن يُفتي في الدين والشريعة وهو لا يعرف الحلال من الحرام، كالذين نراهم اليوم في الفضائيات الدينية المتناثرة كالجراد المنتشر، وهلمّ جرى..، من التخصصات العلمية التي تحتاج إلى علم ودراية وخبرة.
هنالك اليوم بعض المفتين الخطرين الذين يوهمون الناس أن ما يصنعونه من فتاوى، ليوزعوها بالمجان بين الناس وعبر الصحف والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، لا تحتاج إلى شهادة أو خبرة أو دراية، وإنما يستطيع كل فرد من أفراد المجتمع أن يفتي في هذا المجال، حتى ولو كان طفلاً رضيعاً، ونقصد من هذا المجال هو السياسة.
طبعاً هذا الأمر لا نشاهده أو نجده إلا في الوطن العربي المنكوب أصلاً، والذي لا يعترف بالتخصصات ولا بالعلوم والمعارف الإنسانية المتشعبة والمعقدة، فالكثير يعتقد أن السياسة شأن عام يستطيع كل فرد أن يُفتي فيه.
هنالك فرق بين حرية التعبير التي هي حق مكفول لكل فرد من أفراد المجتمع، وبين الخوض في الوقائع السياسية التي تتحرك وفق قوانين علمية وعملية متكاملة، ترتبط بالكثير من التشعبات الحياتية الأخرى، وترتبط أيضاً بمعطيات لا تقل أهمية عنها، كالاقتصاد والاجتماع وغيرهما الكثير.
فالفلاح اليوم يفتي في السياسة، والمعلم يفتي، والميكانيكي يفتي، والصحافي العادي يفتي، والطالب يفتي، والنجار يفتي، والمغني يفتي، وكل شريحة من شرائح المجتمع، يفتون جميعهم «من غير وجع قلب» في السياسة، وكأنها لعب عيال.
في البحرين، وبعد أن تجاوزت أزمتنا حاجز الزمن الافتراضي، جعلت كل البحرينيين يفتون في السياسة، وهذا ما نلاحظه في الصحف الشخصية عبر مواقع التواصل الاجتماعي العالمي «تويتر تحديداً»، ومن خلال أحاديث المجالس والمنتديات والمقاهي وأماكن العمل وفي المدارس، ومع الأسف من خلال بعض كتَّاب الصحف الذين لا يدركون حجم المسؤولية وخطورة الكلمة التي يطلقونها.
لا يمكن أن نقتنع بأن يكون كل المجتمع متخصصاً في الشأن السياسي، فيتحدث في مصارعها وخباياها وعلاجاتها. له الحق أن يطالب بحقوقه ويعبر عن آرائه بكل حرية، لكن ليس له أن يفتي في الحلول والمخارج المعقدة، لأن من أفتى الناس بغير علم ولا هدى في هذا المجال، فإنه يَهْلَك ويُهلِك، ومن هنا وجب ترشيد خطاب المجتمع في الشأن السياسي، حتى لا نخوض في عمق الفتنة مثلاً، بينما نحن نعتقد أننا نقدم حلولاً سياسية لمجتمعنا، وهذا الذي يُسمى في علم المنطق بالجهل المركب.
المقصد من وراء هذا الطرح، ليس في إسكات صوت المجتمع، وإنما ترشيد خطاباتهم السياسية بالطريقة التي تحفظ توازن القوى، وتحافظ على حظوظه في تخطي الأزمة بكل سلاسة، من دون مصادرة رأي لأحد، ومن دون أن يكون صوت أحدهم عن صوتين أو أكثر، ولأجل سلامة الواقع والمجتمع، ينبغي أن يقوم أهل الاختصاص بمعالجة الشأن السياسي بحرفية تامة، يضاف إليها الاهتمام برأي الشارع، وهذا هو الأهم، بل هذه هي الديمقراطية