مع تسارع وتيرة التهويد الصهيوني لمدينة القدس المحتلة والإجهاز على الوجود العربي فيها تعلن إسرائيل ـ بكل وسائل الإعلان ـ أن القدس هي العاصمة الأبدية لـ “الدولة اليهودية”، بل ولكل اليهود في مختلف بلاد الدنيا!
وفي مواجهة هذه الدعاوى التي تجد لها أنصاراً كثيرين في الغرب ـ الديني والسياسي علينا أن نعرض الأمر على حقائق التاريخ، لنمتلك نحن ـ أولاً ـ سلاح الوعي بالتاريخ في هذه المعركة الكبرى، ولندعُ الأخرين إلى الاحتكام للحقائق بدلاً من الأساطير والأكاذيب.
إن عروبة القدس المحتلة تضرب في أعماق التاريخ 60 قرناً ـ أي 6 آلاف عام ـ فلقد بناها العرب اليبوسيون ـ وهم من بطون العرب الأوائل الذين نزحوا من الجزيرة العربية ـ بنوها في الألف الرابع قبل الميلاد، وسموها باسمهم ـ يبوسي ـ ولقد شهد هذا الاسم الأول لهذه المدينة ـ التي تعددت اسماؤها على مر التاريخ ـ على أصالتها العربية، وعلى أن عمرها العربي وعمر عروبتها إنما يعود إلى 4 آلاف عام قبل الميلاد ـ أي 40 قرناً ـ فإذا أضيف إلى هذا العمر القديم القرنان اللذان مرا بعد الميلاد، كان عمر هذه المدينة المقدسة اليوم قد تجاوز 60 قرناً.
واذا كانت أرض كنعان ـ أي أرض الفلسطينيين ـ والكنعانيون هم عرب كذلك ـ هي التي رحل إليها وتغرب فيها أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام فإن تاريخ وجود أبي الأنبياء وتاريخ رحلته إلي أرض كنعان ـ أرض الفلسطينيين ـ هو القرن التاسع عشر قبل الميلاد، أي أن عروبة القدس سابقة في التاريخ على عصر أبي الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ بواحد وعشرين قرنا.
وإذا كان المتدينون بالديانات السماوية الثلاث ـ اليهودية، والنصرانية، والإسلام ـ يؤمنون بقداسة مدينة القدس، وبأن الله ـ سبحانه وتعالى قد بارك فيها وحولها، فإن هذه المباركة الالهية لم تبدأ بعصر أبي الأنبياء ورحلته إلى أرض كنعان ـ أرض الفلسطينيين ـ وإنما سبقت هذه المباركة ذلك التاريخ، ولعل الله ـ سبحانه وتعالي قد شاء أن ينجي إبراهيم ولوطا عليهما السلام ـ إلى هذه الأرض، لأنه ـ سبحانه ـ قد سبق وبارك فيها (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)، فهي أرض مباركة قبل لجوء أبي الأنبياء إليها، وتغربه فيها، وهذه المباركة الإلهية لهذه الأرض قد جعلها الله للعالمين، وليس لفريق دون فريق، فهي مباركة لدى كل الذين يؤمنون بالله، ولدى كل الذين يؤمنون بالنبوات التي انحدرت من نسل ابراهيم، والذين ينتسبون إلي ملته عليه السلام.
وإذا كان كليم الله موسى عليه السلام ـ هو الذي بدأت به اليهودية، ونزلت عليه التوراة بشريعتها ـ إذ اليهودية هي شريعة موسى فإن موسى كما يشهد التاريخ ويعرف الجميع، قد ظهر في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، أي أن بناء العرب اليبوسيين لمدينة القدس ـ يبوسي، قد سبق ظهور موسى وظهور اليهودية بسبعة وعشرين قرناً ـ أي بما يقرب من 3 آلاف عام.
وإذا كان موسى رسول اليهودية ـ كما يشهد التاريخ ويعرف الجميع ـ قد ولد بمصر، وفيها نشأ وتعلم، وتربى وتثقف في قصر فرعون بثقافة مصر ولغتها الهيروغليفية، وفي مصر بعث موسى، ونزلت عليه التوراة بالهيروغليفية ـ لغته ولغة قومه الذين كانوا يعيشون بمصر منذ قرون ـ ولغة فرعون الذي أرسل إليه موسى (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم)، ويومئذ لم تكن اللغة العبرية قد وجدت بعد، إذ العبرية ـ في الأصل ـ لهجة من اللهجات الكنعانية، تطورت وأصبحت لغة بعد غزو بني إسرائيل لأرض كنعان ـ بقيادة يشوع بن نون “1250 ـ1200 ق. م« واستعمارهم أجزاء من هذه الأرض العربية استعماراً استيطانياً ـ بعد إبادة سكان تلك الأجزاء التي استعمروها ـ كما تحكي ذلك أسفار العهد القديم.
وإذا كانت أسفار العهد القديم تعترف بأن موسى قد مات ودفن بأرض مصر ـ في سيناء ـ فمعنى ذلك أن هذا النبي الكريم لم ترَ عينه القدس، ولم تطأ قدمه أرض فلسطين، وأن توراته وشريعته لا علاقة لهما بالقدس ولا بفلسطين.
وأمام حقائق هذا التاريخ، يبرز السؤال: إذن ماهي حجة الصهيونية ـ وأنصارها ـ على أن القدس يهودية، وعلى أنها العاصمة الأبدية للدولة الصهيونية؟!
إن عمدة الأدلة التي تحتج بها الصهيونية على امتلاك اليهود وحدهم، ودون غيرهم، مدينة القدس، وعلى تهويدها واحتكارها، وجعلها بيت اليهود وحدهم من دون العالمين، والدليل العمدة الذي يقدمونه هو ما جاء في سفر التكوين، بالعهد القديم، حول ما أسموه وعد الله لإبراهيم ـ عليه السلام ـ بامتلاك الأرض المقدسة له ولذريته من بعده، الأمر الذي يجعل المناقشة المنطقية لنصوص هذا الوعد السبيل لتمييز الحق من الباطل، والفصل بين الهدى والضلال، وإن سبيلنا لكشف الحقيقة في هذا الموضوع ليست إنكار هذه النصوص، وإنما كشف ما فيها من تناقضات تدفع بها إلي الانهيار كالتالي:
- النص الأول: من هذه النصوص الأربعة يقول: “فقال الرب لأبرام ـ بعد اعتزال لوط له: ارفع عينيك وانظر الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وغرباً، لأن جميع الأرض التي أنت ترى أعطيها لك ولنسلك إلى الأبد، فالوعد في هذا النص ـ بالأرض التي يحدها بصر ابراهيم عليه السلام”.
- النص الثاني: واجتاز أبرام في الأرض من مكان شكيم إلي بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض، وظهر الرب لأبرام وقال لنسلك أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له. فالوعد بالأرض التي بني فيها إبراهيم مذبحا للرب، أي أرض بلوطة مورة ـ حيث ظهر له الرب ـ فقط لاغير!”.
- النص الثالث: وتكلم الرب معه “أبرام”، فقال: لا يدعي بعد اسمك أبرام، بل يكون اسمك ابراهيم. وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض عزبتك، كل أرض كنعان ملكا أبديا ـ فالأرض الموعودة هنا كل أرض كنعان.
- النص الرابع: في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا ًقائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات.
تلك هي النصوص الأربعة، التي تكون الدليل العمدة للصهيونية اليهودية في القدس وفلسطين وهي نصوص مليئة بالتناقضات في تحديد الأرض الموعودة، فمرة تجدها حدود بصر إبراهيم، ومرة هي كل أرض كنعان، ومرة هي أرض بلوطة مورة، ومرة هي ما بين النيل والفرات!!
فهل تصلح هذه الأساطير المتناقضة حجة تواجه حقائق التاريخ ـ الصلبة والعنيدة ـ التي تقول إن القدس عربية، وأن عروبتها تضرب في أعماق التاريخ 60 قرناً، وأن عروبتها هذه ـ وأيضاً قداستها ـ سابقة على عصر إبراهيم ـ الذي عاش في أرض كنعان غريباً لا يملك موضع قبر لزوجه سارة ـ كما يقول العهد القديم، وسابقة على عصر موسى واليهودية بعشرات القرون؟!
إنها الحقائق التي تدحض الأساطير والأكاذيب.