في معلقته التي يستهلها ببيت بكائي على أطلال حبيبته، يقول أمرؤ القيس: “قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل”، يضمنها أيضاً بيتاً تهكمياً في صورة تعبيرية عن التناقض في فهم ابتسامة الأسد، قال فيه: “إذا رأيت أنياب الليث بارزة فلا تظن أن الليث يبتسم”. فالابتسامة لغة هي “تعبير وجهي يتشكل من خلال ثني العضلات الأكثر وضوحاً التي تكون قريبة من طرفي الفم، ومن ثم فهي علامة من علامات الرضى والاطمئنان والفرح، تعبر عن الشعور النفسي العميق النابع من القلب بالطمأنينة والسرور والبهجة والرضا وراحة الضمير”. هذا عندما يمارسها الإنسان، لكن عندما تصدر عن أسد، فهي نذير شر يحذر من احتمال انقضاض الأسد على فريسته التي ستكون سهلة إذ ما اعتبرت بروز أنياب الأسد انعكاساً لارتياحه، كما يفترض، بدلاً من تهيُئه للانقضاض عليها، وإشباع جشع غير محدود لديه.
هذه الحالة التهكمية تنطبق تماماً على قرار المجلس العسكري المصري بإصدار “إعلان دستوري مكمل يحدد صلاحيات رئيس الجمهورية”، الذي جاء مكملاً لحكم المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب”. والذي وصفه المحتجون في ميدان التحرير، بأنه شبه “انقلاب عسكري ناعم”، وعبروا عن رفضهم له بهتافات جاء فيها “لا دستور ولا إعلان لسه الثورة في الميدان”. لقد فتح المجلس العسكري فمه مكشراً لا مبتسماً من نتائج انتخابات الرئاسة المصرية، معبراً عن استعداده للانقضاض عليها والفتك بها، لا الربت على كتفها.
قبل تناول ما يحمله قرار المجلس العسكري المصري من مدلولات ومعان، وما يكتنفه من أخطار مستقبلية، لا بد من الإشارة إلى أن في نجاح ممثل جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات الرئاسة محمد مرسي، بغض النظر عن موقفنا منه، يعكس في جوهره ونتائجه، هشاشة أنظمة العسكر العربية، بما فيها مرجعيتها التاريخية والتي هي النظام المصري، التي استولت على السلطة في بلدان عربية كثيرة، مثل مصر وسوريا والعراق وفيما بعد ليبيا .. إلخ، ومن ثم فهي كما كان يصف الصينيون الامبريالية الرأسمالية الغربية، عند مقارنتها بالامبريالية الاشتراكية السوفياتية، لم تكن أقوى من “نمر مصنوع من ورق”، الذي لم يعد يملك من قوة النمر وشراسته سوى هيكله وصورته. فتلك الأنظمة التي جثمت على صدور شعوبها عقوداً من الزمان، ورسخت سلطاتها عبر أجهزة قمعية لم ينجُ من شرورها أحد، سوى إسرائيل في الخارج، والمستفيدين منها من الزمر الانتهازية والمتسلقة، فشلت في إخفاء مواطن ضعفها أمام أول امتحان شفاف قدمته. فلم يأت محمد مرسي على دبابة عسكرية أخرى، ولم يوصله إلى كرسي الرئاسة اتفاق بين شلة من العسكر، اختلفت مع نظيرتها التي في السلطة على مراكز القوى، لكنها تتفق معها في عدائها للمواطن العادي، وفي مشروعية حقها القائم على الباطل، في مصادرة حقوقه التي تبيحها له أبسط قوانين حقوق الإنسان المتعارف عليها دولياً. لقد أوصلت صناديق الاقتراع السري، بغض النظر عن موقف أي منا من جماعة الإخوان، أو برنامجهم الانتخابي، محمد مرسي إلى كرسي الرئاسة.
لكن بعيداً عن ذلك، وعودة إلى نتائج انتخابات الرئاسة المصرية، فواضح أن سلوك المجلس العسكري الحاكم، حتى اليوم في مصر، سواء في ضغوطه على المحكمة الدستورية كي يجبرها على حل مجلس الشعب، باللجوء إلى مبرر قانوني له، أو بإصداره “المواد التكميلية للدستور”، يعبر عن إصرار واعٍ لرفض نتائج الانتخابات التي جاءت في غير صالحه، وتعبير ملموس عن نوايا ذلك المجلس في خوض معارك جديدة في الأيام القليلة المقبلة، لا يخفف من خطورتها استعداد وزارة الصحة المصرية بتزويد المحتشدين في ميدان الحرير، تعبيراً عن رفضهم للبيان التكميلي، بحوالي 25 سيارة إسعاف تحسباً لأي طارئ.
إذ ربطنا بين ذلك البيان التكميلي، وبين الطعون التي قدمتها الجماعات المؤازرة للمرشح المنافس لمحمد مرسي وهو أحمد شفيق المنحدر من صلب المؤسسة العسكرية التي يمثلها ويحمي مصالحها المجلس العسكري، في نتائج الانتخابات، نكتشف أن هذا الأخير لن يقف مكتوف الأيدي، ويقبل بنتائج الانتخابات، التي ربما لا يملك اليوم القدرة ولا الوسائل التي تبيح له التغيير منها عبر القنوات الشرعية، وبالانصياع للقوانين والأنظمة، دون أي تجاوز لها، دون أن يقودنا ذلك إلى استنتاج خاطئ يوهمنا بأن المؤسسة العسكرية المصرية قد ألقت السلاح ورفعت راية الاستسلام البيضاء، بل ربما العكس هو الصحيح تماماً، وليست الإجراءات الأخيرة التي لجأ لها المجلس العسكري، سوى طلائع قوات الإسناد الأخيرة التي احتفظ بها المجلس العسكري، احتياطاً وتحسباً لأية هزيمة غير متوقعة في الانتخابات الرئاسية، كتلك التي واجهها عندما سقط ممثله أحمد شفيق.
ومن هنا فمن المتوقع أن يبدأ المجلس العسكري وضع العصي في دواليب حكومة مرسي القادمة من خلال الخطوات المتوقعة التالية:
1. الاستمرار في الاستعانة بكل الوسائل القانونية والتشريعية التي من شأنها تقليص سلطة الرئيس المنتخب، لصالح مواصلة إحكام قبضة المجلس على مفاصل صنع القرار الرسمي في مصر، والتحكم في دفة تسيير مؤسسات الدولة، بشكل مباشر أو غير مباشر. من المتوقع أن يستعين المجلس هنا بفئران النظام السابق التي لن تتردد، عندما ترى الفرص سانحة، والظروف ملائمة، في الخروج من جحورها، والانقضاض على النظام الجديد إما لتقويضه كي يغير مساراته في الاتجاهات التي تخدم مصالحها، أو لترويضه، والقبول بما تمليه عليه كي لا تمس قراراته تلك المصالح، أو حتى تقلص جوانب جوهرية منها.
2. التحضير لانقلاب عسكري ناعم من الداخل، تغطيه ملاءات مدنية غليظة تحول دون رؤية رتب مدبريه من العسكر، فتبهر صورته المدنية الخارجية الأنظار إلى درجة تفقد العين الناظرة غير المتبصرة القدرة على التمييز الصحيح بين مدنيته المراوغة، وعسكريته الحقيقية. مثل هذه الصورة الخادعة، ولو مؤقتا، ستمد المؤسسة العسكرية المصرية بالوقت الذي تحتاجه، كي تعيد ترتيب صفوفها، فتكون قادرة على امتصاص تأثيرات الصدمات التي تلقتها، ولم تكن مستعدة لها، من ثورة 25 يناير المصرية، كخطوة أولى للانقضاض عليها وإجهاضها.
3. تشكيل جبهة خارجية من الخارج، وهو خيار سيلجأ إليه المجلس العسكري في حال فشل محاولاته للالتفاف على نتائج الانتخابات، بالطرق السلمية أوحتى غير السلمية، من الداخل، بشن حملة خارجية لتشويه صورة النظام في عيون القوة الدولية أو الإقليمية الباحثة عن موطئ قدم لها في مصر، أو تلك الراغبة في نسج تحالفات استراتيجية معها. لن يتردد العسكر حينها في الاستفادة من نسج تحالفات وثيقة مع تلك القوى الدولية أو الإقليمية التي تتناقض مصالحها، وتتعارض استراتيجيتها، مع أي نظام قادم ليس للمؤسسة العسكرية المصرية القديمة من قول فيه. حينها لن يستثني المجلس العسكري دولاً مثل إسرائيل لتحقيق مثل هذا الهدف.
لقد فتح المجلس العسكري فمه فبدت أنيابه واضحة ليس تعبيراً عن ابتسامة، وإنما تهيؤاً للانقضاض على فريسة، ربما تكون سهلة، وقد تكون أيضاً ساذجة وغير خبيرة مقارنة بما يملكه المجلس العسكري من خبرات، وما تحت يديه من مصادر قوة، وما يتحكم فيه من ثروات ومراكز نفوذ، لا يبدو أنه، حتى الآن، مستعداً للقبول بهزيمة ترغمه على التضحية بها أو حتى التنازل عن جزء منها.