عاد رمضان؛ وبعوده الأحمد تعود القلوب لمزيد من التقوى والعبادة والإحساس الفطري بالرغبة في التقرب إلى الله سبحانه وترك المعاصي والإكثار من الخير، وهي مشاعر وإن كانت حاضرة بالضرورة دائماً في حياة الناس إلا أن لرمضان روحانياته الخاصة ومآثره وعظمته في قلوب المسلمين، لا يستثنى عنهم من ذلك أهل البحرين الطيبون المتدينون المسالمون بطبيعتهم السوية، الميالون إلى المحبة والتواد والتراحم والاجتماع على الكلمة السواء ونبذ دواعي الفرقة والفتنة والتعصب، وهو ما يشهد به تاريخ طويل كانت فيه هذه الجزيرة الصغيرة الهادئة المطمئنة وأهلها مضرب الأمثال في المحبة وحسن الخلق وطيب المعشر والترحيب بالغريب قبل القريب وفتح القلوب قبل البيوت، واسألوا عن ذلك كل من عاش أو زار أو عمل في هذا الوطن وعاشر أهله.
لكن الأحداث العظام والمفاجآت الصادمة تخرج الناس عن طبيعتهم وتغير النفوس للحظات عابرة أحياناً وممتدة في أحيان أخرى، ولعل الأزمة المفتعلة التي عشناها في العام الماضي كانت صادمة وشديدة وموجعة بما يكفي لترك جرح عميق في قلوب الناس وحتى التأثير على طباعهم وتغييرها، فهؤلاء الذين أرادوا تحقيق مخططات وأهداف سياسية ومصالح بعيدة عن إجماع الناس وعن مصلحة الوطن بأكمله لم يكترثوا بما قد يحدث من كراهية وعداوة وبغضاء، ولم يعنيهم الحفاظ على النسيج المجتمعي، فقادهم تعصبهم إلى اللعب بسلم الوطن وأمنه الداخلي، وتسببوا بخروج التعصب في الأطراف الأخرى، وبات الكل يسعى للمغالبة وهي نتائج كانت متوقعة بل ومعروفة سلفاً، لكن مفجري الأزمة لم يوقفهم ذلك عن إشعال نارها، فدخلنا في صراع طائفي يتغلغل في أنسجة وأضلع وخلايا المجتمع وانتشر في أغلب أجزاء الجسد، إلا من رحم ربي ممن سميناهم سابقاً بالقابضين على الجمر، وهم الذين مازالوا متمسكين بحبهم الخالص لهذا الوطن وقيادته وشعبه وكل من يعيش على أرضه دون الالتفات لدينهم وطائفتهم وأصولهم ولغتهم وعقيدتهم، مادام ولاؤهم للبحرين أرضاً وناساً وحكماً وعروبة وماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
هؤلاء القابضون على الجمر، وما أقلهم اليوم، كانوا بالأمس القريب هم غالبية أبناء البحرين من كل المكونات، لكن الفتنة ومن أشعلها ومن ثم من ساهم في نشرها غيرت النفوس وبدلتها، وصدقاً أقول إن ذلك واقع يعرفه الجميع!! صرحنا به أو دفنا عنه رؤوسنا في الرمال، الناس ما عادوا كما كانوا، ولا أعتقد أن هناك خسارة من وراء تلك الأزمة البغيضة المفتعلة أكثر إيلاماً على النفس ووقعاً على الوطن من أن يتفكك أبناؤه وينقسموا فيما بينهم.
أقول ذلك ونحن في أولى أيام شهر فضيل يقبل الناس فيه إلى ربهم وعبادتهم ودينهم راجين من فضله وفيه خير كثير وبركة، لذلك فإن للمنابر الدينية اليوم مهمة وطنية كبيرة، تلك المنابر التي مع الأسف اختطفت من أغراضها التي تسعى لخير الناس وصالحهم الديني والدنيوي إلى مكان للمنازعات السياسية والتحريض وبث الفرقة، وهو أمر ساهمت تلك الأزمة في ترسيخه ونشره، واستغل أصحابها المنابر في التحشيد والتجييش، فكان لابد أن تخرج في المقابل منابر أخرى لتقف أمام ذلك، فاختلط الخطاب العقلاني المنضبط بالمتعصب المنفلت، ولأنني لا أريد أن أقع في خطأ التعميم سأقول إن مثل ذلك موجود، اختلفنا في حجم انتشاره أو اتفقنا، لكنه ودون شك مؤثر.
إن الإيمان بهذا الدور وخطورته وعظمته هو ما دفع إلى تدشين وثيقة الشرف لخطباء البحرين ووعاظها، والتي تدعو إلى تنزيه الخطاب الديني عن الأهداف الحزبية والفئوية الضيقة، وجعل المنابر الدينية منارات تشع بالإيمان والتقوى وتقود الإصلاح وتدفع عجلة التنمية وتنشر المحبة والمودة بين الناس، وهي خطوة مباركة تحسب لكتلة البحرين النيابية ولكل الخطباء الأجلاء والعلماء والمشايخ الأفاضل الذين سارعوا إلى توقيعها لإنقاذ المجتمع مما لحق به من مشاحنات لم يعتدها من قبل أبناء الوطن الطيب سنة وشيعة، فدورهم المأمول أن يكونوا قادة خير ودعاة إلى الإصلاح والسلام والتسامح وجمع الكلمة ونبذ الفرقة.
هذه المبادرة جاءت متسقة أيضاً وما دعا إليه قبل أيام وزير العدل والشؤون الإسلامية، الذي شدد على ضرورة الالتزام بالثوابت الوطنية الجامعة والنأي بالشأن الداخلي عن أي صراعات أو نزاعات إقليمية أو استقطابات طائفية أو وساطات وتدخلات خارجية، وهي دعوة تستحق الإشادة، لكننا أيضاً نطالب الوزارة بتشديد الرقابة على الخطابات التي تخرج من المنابر الدينية وأن يطبق القانون على الجميع وعلى كل من يقف على منبر ديني في مسجد أو مأتم أو جامع، دون تفرقة وبغض النظر عن طائفته أو مكانته الدينية لدى أتباعه أو شعبيته وغيرها، لأن الأضرار التي تنعكس على المجتمع من وراء دعوات التعصب والطائفية والكراهية والتحريض بالغة وخطيرة، وتضر بالوطن ومصالحة أياً كانت الجهة التي صدرت عنها.
^ شريط إخباري..
ننتظر أن يسارع ورثة الأنبياء من العلماء والخطباء الأجلاء للتوقيع على هذا الميثاق والعمل به حباً في البحرين وأهلها وليكونوا قادة الناس وطريقهم إلى الخير والتسامح والإصلاح.
{{ article.visit_count }}