المخرج الشاب كريستوفر نولان قدم في آخر عمل إخراجي له فيلماً عميقاً قد شاهده الكثيرون “إنسبشن” أو ما نسميه بالعربية بالاستهلال، بل أعجبني حواراً قيّماً بالفيلم، سأل الأول عن إمكانية زرع الأفكار في عقل آخر، فرد الثاني بأنها فكرة ممكنة، فلو قلت لك لا تفكر في الفيل ومنعتك، في ماذا ستفكر؟ .. أكيد في الفيل! يورو هذا العام يوجه لنا دعوة ثقافية علمية كروية، تعلمنا الكثير لحد الآن، وهو ما يميز البطولة بأنها غنية جداً بالتنوع، ولكني أشيد بهذه الجماهير العظيمة الغير متواجدة بأي رقعة في العالم. شاهدت لقطة أثارت انتباهي في لقاء اليونان وروسيا، مشهد ليس بأي مشهد، فقد كان بعض المشجعين اليونان يضعون خوذات العهد الإغريقي وكان بجانبهم من هو بقميص إيطاليا ومن هو بقميص روسيا، فتشارك واحد منهم خوذته مع المشجع الروسي، فذكرني ذلك بماركوس أوريليوس الإمبراطور الروماني الذي كون إمبراطورية توسعية ضخمة جداً، وبنفس المبدأ وبنفس السياسة، يريد المشجع اليوناني أن يزيد من رقعة الجماهير اليونانية المنبوذة بتصدير الخوذة اليونانية والفكر اليوناني للثقافات والجماهير الأخرى. وعلى النهر الآخر، شاهدنا روح الجماهير الأيرلندية أمام لقائهم بإسبانيا، لم أشاهد سوى جمهور مرعب، فقد كان مشاغباً ولكن بأخلاقياته ونبض روحه المتفردة، الروح التي لا يملكها سوى هو، سوى شخصية المشجع الأيرلندي، ففي آخر لحظات المباراة و وسط اقتحام وحرق الإسبان لحصون المدرب القدير تراباتوني وسحقه برباعية نظيفة، لايزال الجمهور الأيرلندي يغزو مقاعد الملعب بهديره الصاخب، وهو إن دل على أن هذا الكم من الجماهير قادمة بفكرة ما، بفكرة لربما تنعش المنتخب الأيرلندي في قادم المسابقات، فما أجمل أن تفشل وترى بأنك ربحت من ذلك الفشل دعماً ليس له فضاء من الحب لك، وردة للغزاة، “الجماهير الأيرلندية”. الجماهير ليسوا فقط أشخاصاً على مقاعد يتفرجون على لاعبي كرة قدم، بل هم أصحاب فكرة وهدف وغاية، دورهم كبير في تصدير ونشر ما يؤمنون به من أفكارهم النبيلة، من قناعاتهم التي يرونها صحيحة، من موروثهم و مثالياتهم و مبادئهم، فلو شاهدنا مباراة بدون جماهير كأنما نشاهد فيلماً بدون نص، مبعثراً ولا يملك من الغاية أي وسيلة، تماماً كمباريات كرة القدم، التي تشهق بالجماهير وتزفر بهديرهم. وردة للجماهير التي لازالت تعلمنا كيفية التمسك بالمبادئ و احترامها!