تستند العلاقات بين الدول إلى ركائز كثير منها ثابت ودائم ديمومة نسبية وبعضها متغير، وفي هذا الصدد قال كثير من السياسيين والمفكرين الاستراتيجيين إنه لا توجد عداوات دائمة أو صداقات دائمة إنما توجد مصالح دائمة، من هذا المنطلق ننظر للعلاقات المصرية الخليجية في ضوء الركائز الدائمة والظروف المتغيرة.
بالنسبة للركائز الدائمة نجد أن أولها يتمثل في البعد الجيوبوليتيكي، أي بعد الجغرافيا السياسية، التي تجعل الأمن الوطني المصري هو محور الأمن القومي العربي والذي يعد أمن الخليج العربي مكونا رئيسا من مكوناته، أما الركيزة الثانية فتتعلق بالبعد الثقافي التاريخي التراثي؛ إذ ارتبط تاريخ مصر ارتباطاً وثيقاً بتاريخ شبه الجزيرة العربية منذ العصر الفرعوني، لذلك فإن بعض الباحثين المدققين يرجعون تاريخ الهجرات العربية من شبه الجزيرة إلى مصر لتاريخ أسبق من الفتح الإسلامي، فقد هاجرت العديد من القبائل العربية لمصر إما عبر شبه جزيرة سيناء او عبر باب المندب في أقصى جنوب البحر الأحمر. ثم جاءت الهجرات العربية لمصر بكثافة بعد الفتح الإسلامي لمصر وانتشرت تلك القبائل في ربوع الأراضي المصرية بحيث يمكن القول إنه لا تخلو منطقة من الأقاليم المصرية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب من وجود قبائل عربية. هذا جعل تحول مصر للعروبة أكثر سهولة ويسراً من غيرها من الأقاليم التي فتحها العرب باسم الإسلام رغم وجود حضارة مصرية عريقة وأكثر قدماً وثراء وإنتاجاً حضارياً كما تدل على ذلك أثارها الباقية. أما الركيزة الثالثة فترتبط بالجغرافيا الاقتصادية ،وهنا نجد التأثير المتبادل بين مصر وشبه الجزيرة العربية بوجه خاص منذ الفتح الإسلامي وتطور دور الكعبة المشرفة بعد ذلك في الوجدان المصري ومكانة أهل بيت النبوة في الضمير المصري، حتى أنه يروى أن السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب هي صاحبة الضريح والمسجد المشهور في وسط القاهرة، وإنها جاءت بعد فترة قصيرة من معركة كربلاء وأقامت وزوجها في مصر، ثم قرر زوجها العودة للمدينة المنورة وهي معه، فثار الشعب المصري ضد هذا القرار وطالب ببقائها واستجاب الزوج والزوجة لهذا الموقف الشعبي المصري.
كما احتضنت مصر في المسجد الحسيني كما تروي الكتب رأس الإمام الحسين، يقال إن السيدة زينب هي التي حملته إلي مصر حيث أقيم له ضريح بالمسجد الحسيني المعروف في مصر باسم مسجد سيدنا الحسين، ويضم المسجد بعضاً من تراث النبي محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام .
لقد حملت مصر أمانتين منذ الفتح الإسلامي؛ أمانة الدين الإسلامي بصورته العقلانية المتسامحة وأمانة اللغة العربية، ولعب الأزهر الشريف دوره في هذا الصدد، رغم أن الفاطميين هم الذين انشأوه ليكون مركزاً للفكر الباطني الفاطمي فإنه تحول بعدهم بسرعة إلى الفكر السني تماشياً مع طبيعة الشعب المصري في الاعتدال، ولما لمسوه من سلوكيات لا تتماشى مع الأعراف والتقاليد المصرية من بعض الحكام الفاطميين، فضلاً عن أن مصر تحت الحكم الفاطمي كانت ذات أغلبية سنية يدين شعبها بالولاء للدولة العباسية.
وللحقيقة فإن مصر لا تعرف التفرقة بين السنة والشيعة ولا بين أي من الفصائل والمذاهب السنية ونظيراتها الشيعية، فمصر تفهم الفكر في جوهره هو فكر إسلامي، والسلوك المصري يربط بين العبادات والفقه وبين التصوف وحب آل البيت الكرام. ولدى الشعب المصري قدرة فريدة على الانصهار والاستيعاب للجاليات الوافدة، وإذا استعملنا المصطلحات الحديثة فليس لديه تفرقة بين من أصوله عربية أو فرعونية أو رومانية أو تركية أو شركسية، ويمكن أن يصل إلى أعلى المناصب في الدولة أي شخص بغض النظر عن أصوله إذا لمس المصريون فيه اعتدالاً وحكمة وكفاءة. ونضرب على ذلك مثالين أولهما وصول سيدنا يوسف إلى منصب الوزير أو وزير المالية بالمصطلحات الحديثة، ثم وصول محمد علي باشا إلى منصب الوالي فضلاً عن تحول المماليك الذين استجلبوا كعبيد إلى حكام وغير ذلك.
لقد أشرت إلى هذا البعد لاعتبارين مهمين؛ أولهما ما يردده البعض عن الغزو المصري لشبه الجزيرة العربية والصراع الذي حدث في عهد محمد علي مع الدولة السعودية والحركة الوهابية، وهو واقعة تاريخية يخرجها بعض أصحاب الأهواء عن سياقها، وهو خضوع مصر والجزيرة العربية للدولة العثمانية التي كانت تعتبر مركزاً للخلافة الإسلامية، وأن تحريك محمد علي لجيشه نحو شبه الجزيرة العربية ارتبط بقراره طاعة السلطان العثماني، كما إن الاعتماد على الوقائع التاريخية لإثارة الخلافات والأحقاد بين الشعوب هو وصفة لإثارة الفتن والتوتر بلا منطق علمي، ووقوع في فخ فلسفة فرق تسد المعروفة.
فبعض المصريين من غير المسلمين يرددون خطأ مفهوم الغزو العربي الإسلامي لمصر، وهذا بدوره خروج عن السياق التاريخي وعلاقة الشعوب في ذلك الزمن. أما من يتحدث عن الناصرية وخلافها مع المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج فهو في نفس الإطار خروج عن السياق التاريخي والارتباط القومي والفكر القومي العربي في ذلك الحين والارتباطات الدولية لكل دولة أو إقليم من أقاليم الأمة العربية. باختصار من وجهة نظري كباحث في الشؤون الاستراتيجية الدولية وتاريخ وحضارات الشعوب أجد أن الاستناد لواقعة أو واقعتين في علاقات الشعوب تعد افتئاتا على السياق التاريخي والحضاري والمفهوم الاستراتيجي لتطور أمن الشعوب وترابطها.
ننتقل بعد ذلك إلى العوامل المتغيرة في العلاقات المصرية الخليجية، وأول هذه العوامل هو الأحداث التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة وارتباطها بالظروف السياسية التي هي بطبيعتها متغيرة، ثاني المتغيرات هو ما يرتبط بدور القيادات والنخب السياسية والفلسفات السياسية التي تمثل البنية الفوقية للمجتمع، وهي في التحليل السياسي مظهر من مظاهر تطور البنية الأساسية. فمصر ثورة 1952 عبرت عن حالة مصرية بامتياز وعن مفهوم مصر الثابت في الأمن القومي العربي سواء في العلاقة المصرية الفلسطينية أو العلاقة المصرية السورية أو العلاقة المصرية بشبه الجزيرة العربية، لذلك بادرت بمساندة الكويت فور استقلالها للحفاظ على هذا الاستقلال الوليد آنذاك في مواجهة تطلعات عبدالكريم قاسم، كما فعلت نفس الشيء في مراحل لاحقة في عهد حسني مبارك عام 1990 في مواجهة صدام حسين، كما إنها تساند البحرين في مواجهة التطلعات الإيرانية، كما ساندت دول الخليج في عهد عبدالناصر في مواجهة الاحتلال البريطاني ونفس الشيء حدث مع فلسطين أو سوريا، فالوحدة المصرية السورية جاءت بناء على طلب وإلحاح من القيادة السورية ورئيسها شكري القوتلي آنذاك، وإصرار شعبي في مواجهة التهديدات من حلف بغداد وتركيا آنذاك، التي كانت رابطة في حلقة الأحلاف الدولية بين حلف بغداد وحلف الناتو، وهذه وقائع سجلها التاريخ ولكنني أسوقها بإيجاز للتدليل على البعد الدائم في السياسة الخارجية المصرية.
ننتقل إلى الجمهورية الثانية في مصر بسقوط نظام حسني مبارك الذي كان على صلة وثيقة بدول الخليج، ومن ثم أثار سقوطه قلق بعض دول الخليج، من هنا جاء التوضيح المصري ممثلاً في وزير الخارجية آنذاك نبيل العربي وفي المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس الاعلى للقوات المسلحة والدكتور عصام شرف رئيس الوزراء، الذين أكدوا جميعاً من خلال تصريحاتهم أن أمن الخليج العربي خط أحمر بالنسبة للسياسة المصرية لا يمكن التفريط فيه.
أعتقد أن قلق بعض دول الخليج له مبرراته، فالنظام الجمهوري بوجه عام يختلف عن النظام الملكي أو الوراثي في دول الخليج، وهنا أقول إن هذه الاختلافات في نظم الحكم هي عملية طبيعية ومرحلة من مراحل التطور التاريخي، وترتبط بخصائص كل دولة، ولا صلة جوهرية لها بالعوامل الثابتة في علاقات الدول.
وللحديث بقية..