استكمالاً لحديث الأمس بشأن منظمة “مبادرة الشراكة الشرق أوسطية” ودورها في تسهيل تدخل الحكومة الأمريكية في أكثر من 18 دولة في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال إيجاد شركاء “مدفوعي الأجر” تم دعمهم بالمال والتدريب والتخطيط، نجد أن هذه المنظمة لا تعمل بأسلوب “بنوك الإقراض” بحيث هي لا تسترد ملايين الأموال التي تصرفها ممن يطلبون التمويل، بل “طريقة الدفع” تتم بأسلوب مختلف. قوة مطلقة، تحكم بلا حدود في مصائر دول أخرى، تشكيل طوابير أتباع، تطويع العالم ليكون تحت السيطرة. كلها أمور لا يمكن لأي قوة عالمية أن تنفي رغبتها في التحصل عليها جمعاء. بالتالي هي سياسة الاستعمار الجديد القائمة على وضع الدول المستهدفة في “سلة واحدة” تتم السيطرة عليها لا عبر إرسال قوات لا حصر لها، ولا عبر احتلال أراض وإدارتها والاضطرار لمواجهة حركات تحرر مثلما حدث في القرن الماضي، بل هي سياسة وضع ممثلين و”ولاة” جدد يدينيون بالولاء والطاعة، وإن وصل بهم الأمر للانحراف عن المسار الموضوع والمتفق عليه، فإن الدائرة تدور، ومثلما تم الإتيان بهم تتم الإطاحة بهم. خذوا العراق على سبيل المثال، ما الطريقة الأسهل التي يمكن اتباعها، إرسال جيوش مدججة والدخول في مواجهات عنيفة خلفت عديداً من القتلى الأمريكان وعشرات من المصابين وذوي العاهات المستديمة، في مقابل سخط وغضب في الداخل الأمريكي على إرسال أبنائهم للموت، أم مغادرة العراق بعد إبرام “صفقة” تضمن من خلالها الولايات المتحدة مصالحها من عائدات النفط، وتسلم العراق بالتالي للوصاية الإيرانية، ولا يهم بعدها إن تناحر العراقيون أو تقاتلوا أو اتفقوا، المهم ضمان استمرار المصلحة، والتي لو كتب لها أن تتضرر بسبب أي انفلات، فإن الحل الأخير يكمن في إعادة السيناريو مجدداً. المنظمة التي نتحدث عنها واضح تماماً دورها، وهي تعمل أصلاً على المكشوف، ومن خلال موقعها الإلكتروني تجدونها تتحدث وكأنها بنك للتسليف والاقتراض بخلاف أنك لست في حاجة لرد المبلغ، بل أنت ملزم بالتوقيع على اتفاقية من خلالها لا تنحرف في عملك أو مشروعك الذي يتم تمويله عن الأهداف التي وضعتها الحكومة الفيدرالية، أي أنك في النهاية تظل “عبد المأمور”. هوس امتلاك مقدرات العالم، مازال هوساً يلعب في ذهن كل طاقم جديد يدير الولايات المتحدة الأمريكية، بغض النظر إن كانت هناك قوة عظمى مناهضة، بغض النظر لو كان الاتحاد السوفييتي مازال قائماً أو انهار، بغض النظر عن أي شيء، المهم هو الإحساس بالتحكم وفي امتلاك صلاحية التدخل بكل صورة ممكنة في شؤون الآخرين. منذ عام 2002 حتى الآن ضخ أكثر من 600 مليون دولار أمريكي في أكثر من 100 مشروع على امتداد 18 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. على الشعب الأمريكي أن يعي هذه الأرقام، أن يستوعب المزيد بشأن سياسة بلاده على الصعيد الخارجي. الولايات المتحدة ليست جنة الله على الأرض، ليست الأرض الموعودة، ولا الناس الذين يعيشون فيها يعيشون حياة كاملة لا مشاكل فيها، بل الشعب الأمريكي نفسه أكثر شعوب الأرض تعرضاً لسياسات بلده بالنقد، سواء في وسائل الإعلام أو ما ينتجه من أفلام ومسلسلات أو من خلال التعبير الديمقراطي الحر الذي بات يقمع في الآونة الأخيرة بشكل فاضح ومعيب مثلما حصل في احتجاجات “وول ستريت”. واشنطن بدلاً من وضعها حلولاً ومبالغ لحل مشاكل عديدة بالداخل مثل قضية التأمين الصحي، وحل قضية التأمين التقاعدي التي كانت سبباً في الاحتجاجات الأخيرة، تصرف من خزنتها ملايين الملايين (هذا ما يعلن عنه، والمخفي أعظم بالتأكيد) فقط حتى تتدخل في شؤون الدول الأخرى بأساليب متباينة. هذه المنظمة لا تقول إن هدفها هو توعية شعوب العالم بحقوقهم السياسية وبالديمقراطية وكيفية ممارستها بصورتها الصحيحة دون تعامل عنصري طائفي أو طغيان أجندات مريبة الأهداف، بل تقول إن هدفها هو “خلق حالة من الشراكة الحيوية بين الولايات المتحدة ومواطني هذه الدول”. هنا توقفوا وضعوا خطاً أحمر، فالهدف هو “الشراكة مع الولايات المتحدة” ولا شيء آخر، ولكم حق التساؤل لماذا الشراكة بين واشنطن ومؤسسات أهلية ومنظمات في وقت تمتلك هي فيه شراكة دبلوماسية رسمية مع الدول؟! هي لعبة العصا والجزرة، هي سياسة خلق الضغط من الداخل، بل هي لعبة التحكم في مصائر الدول من خلال امتلاك “الزر الذهبي” الذي بضغطة منه تتحرك فئات لافتعال ثورة هنا، أو فوضى هناك. لا يلام الأمريكان أبداً على ما يفعلونه، فهم يطبقون المثل القائل “اللي تغلب به العب به”، لكن اللوم على من يقبل بهذا المشروع الأمريكي وينخرط فيه، ويقبل بأن يتحصل على أموال وتدريب وهو يعلم بأنه سيتحول بعد ذلك إلى أداة طيعة تنفذ جزءاً من مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، يعلم تماماً بأنه سيكون قابلاً لرؤية قوى خارجية تتدخل في شؤون بلده وتقرر مصيره. لن يكون شريكاً أصلاً، إذ كيف يكون “مدفوع الأجر” شريكاً؟! هؤلاء حالهم كحال من يبيع نفسه للشيطان، يبحث عن مصلحة ذاتية شخصية “آنية”، متناسياً بأنه ليس في موقع “الرابح الأكبر” من الصفقة، إذ هو في نهاية المطاف لن يكون حراً بأي حال من الأحوال!