أدرك جيداً أن الحديث باسم الطوائف وعن الطوائف بات يُفزع الكثير من البحرينيين الغيورين، وأدرك جيداً أن أخطر ملفات إعادة تقسيم المنطقة العربية الذي يتم تداوله في هذا الظرف التاريخي الحرج هو الملف الطائفي، ولكن ثمة فرق بين من يتحدث عن الطائفية ليشخصها ويبحث لها عن حلول وبين من يتحدث عنها لينفخ في نارها ويزيدها اشتعالاً، لذلك علينا الاعتراف بأن المأزق الخطير الذي جره علينا ما يسمى “حراك 14 فبراير” هو خلق الحالة الطائفية في البحرين باعتراف تقرير بسيوني، الذي تلوح قوى التأزيم به في وجوهنا بانتقاء طائفي بغيض، وكي نخرج من هذا المأزق علينا أولاً كشف تفاصيله والاعتراف بها وإيجاد حلول “وطنية” جذرية وحقيقية لها، ولن نصل إلى مرحلة الحلول الوطنية ما لم نفتت معالم الطائفية في البحرين ونحل كل واحدة منها على حده.
وجدت التمهيد السابق ضرورياً للحديث عن توقعات “الشارع السني”، تحديداً، وهواجسه من طرح موضوع الحوار الوطني بجدية واضحة هذه المرة، فحامل ملف الحوار الوطني هو وزير العدل وقد أنهى جولات من الحوار المبدئي مع العديد من الجمعيات السياسية، وخرجت بعض الجمعيات ببيانات مختلفة توضح فيها موقفها من الحوار، ومن المهم التأكيد أن جميع الجمعيات السياسية السنية “موافقة” على الحوار موافقةً مشروطة، سواء استخدمت صيغة القبول المشروط التي استخدمتها جمعية “تجمع الوحدة الوطنية” وهي أن التجمع “يقبل الحوار” بشروط، أو باستخدام صيغة الرفض المشروط التي استخدمتها جمعيتا “المنبر” و«الأصالة” التي تؤكدان دوماً بأنهما ترفضان “الحوار إلا بشروط”، ولكن محصلة دلالة القول إن كل الجمعيات “توافق بشروط”، وقد استغلت هذه الصيغ اللغوية استغلالاً سيئاً بين الجمعيات ومريديهم مما زاد في إحباط الشارع السني.
شروط جميع الجمعيات التي تمثل الشارع السني تتضمن وقف العنف، وتطبيق القانون، ثم تتطرق الجمعيات إلى مطالبتها، بالعموم، بضرورة محاربة الطائفية، والمحسوبية، والفساد، وتولية الرجل المناسب في المكان المناسب، وحل بعض المشكلات المؤرقة للبحرينيين مثل الإسكان والوضع الاقتصادي وغيرها، أين يكمن مأزق الشارع السني إذن؟
يكمن أولاً في شروط الحوار، فقوى التأزيم لن تتوقف عن إرهاب الشارع وحرق البحرين لأنه آخر ما تملك بعد أن أفلست سياسياً في الداخل، وأوشكت أن تفلس دبلوماسياً في الخارج، وعيسى قاسم هدد مراراً بأنه سيصعد وسيسحق، وعلي سلمان لعب دائماً بالبيضة والحجر، فهو يرفض المولوتوف ولكنه يدافع عن راجميه، ويسمي حراكهم بالسلمي ويضفي عليهم لقب معتقلين سياسيين!!، وقد نحا بنفسه مراراً عما يحدث في الشارع لأنه، حسب وصفه لنفسه ذات يوم بفبراير، لا يملك عصا سحرية لضبط الشارع، أما شرط تطبيق القانون وإنفاذ المحاكمات فتجري العديد من الضغوط الخارجية من أجل إلغائها وإطلاق سراح من يسمون رموزاً ، فلا تطمعوا كثيراً بالأمن والاستقرار من قوى الإرهاب.
أما الحديث عن محاربة الفساد والمحسوبية وغيرها من قضايا إدارة السلطة التنفيذية فهو المأزق الثاني، إذ إن الجمعيات السياسية المعنية لم تقدم في الأحد عشر عاماً الماضية ما يفيد في هذا المجال، بل إن الدولة كانت أكثر إيجابية في الطرح من الجمعيات السياسية والكتل البرلمانية، فرئيس الوزراء أعلن كثيراً عن أهمية التعاون من أجل محاربة الفساد، وديوان الرقابة المالية “الحكومي” قدم تقارير دقيقة وشفافة عن الفساد المالي والإداري المستشري في الوزارات والمؤسسات الحكومية، لكن الجمعيات السياسية والكتل البرلمانية لم تعالج ما ورد في تقرير الرقابة المالية معالجة سياسية فاعلة باستخدام الأدوات الرقابية والضغوط السياسية والشعبية التي تمتلكها سواء في البرلمان أو خارجه، وحال مناقشة الكتل البرلمانية الوزراء في أي قرار أو مشروع قد يثير الرأي العام يكتفي النواب بتقارير الوزارة الإيجابية ويُطوى الموضوع وينتهي كزوبعة في فنجان!!
المأزق الثالث يكمن في مدى تمثيل الجمعيات السياسية للشارع السني، فتواصلها مع الشارع ضعيف يقتصر في الغالب على الديوانيات والمجالس التي يندر أن يطرح فيها حواراً سياسياً مؤسساً تعرض فيه الجمعيات السياسية بشفافية ما يدور من حوارات مع الحكومة أو المعارضة وما هو متوقع وما هو ممكن، فالتعامل السني السياسي صار مقصوراً على هذه الجمعيات ونسبة مشاركة الشارع مازالت محدودة والتعبير عن مشكلات الشارع السني وطموحاته تعبير ضعيف.
المأزق الرابع هو قدرة الجمعيات السياسية السنية على تطوير أدائها السياسي، فنحن المواطنون لا نعلم عن وجود لجان في هذه الجمعيات لتلقي الشكاوى ومراقبة الأداء الحكومي أو لجان لرصد الرأي العام وإعداد الدراسات، ولم تعلن أي من هذه الجمعيات عن تبنيها لقضية ما تَطرح من خلالها مشروعاً متكاملاً يعبر عن رؤيتها للواقع والحلول، لقد أصبح دور الجمعيات يقتصر على إصدار البيانات، وهذا ما حولها في نظر فئة واسعة من الشارع السني إلى جمعيات كلام وليست جمعيات أفعال.
لماذا تعتبر النقاط الأربع السابقة مأزقاً؟ لأنه من الأرجح أن تعود الوفاق أو من يقوم مقامها إلى البرلمان القادم، وسوف يحملون معهم ملفاتهم الخاصة، وسوف تكون لهم مطالبهم الخاصة، وقد تمر الدورات البرلمانية والأداء الحكومي بأزمات متكررة إما مفتعلة أو نتيجة دورة العمل التي قد يسيطر عليها استقواء طرف بعينه وتعنته، والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا أعدت الجمعيات السياسية السنية لهذا التصور الوارد؟
ليس الهدف من الحديث السابق تأجيج طائفة على طائفة، والعياذ بالله، ولكن أولى الحلول الوطنية هو تقوية أداء الجمعيات السياسية لمواجهة أي موقف غير وطني أو طائفي، وتقوية مؤسسات الدولة من أي اختراق غير وطني باسم الطائفة أو القبيلة أو المحسوبية، ومادام الشارع السني ضعيفاً، وغير منظم، ومادامت الجمعيات السنية تعاني من الضعف في برامجها ورؤاها للمستقبل فالأولى أن تقوى نقاط الضعف هذه لمواجهة أي مشروع غير وطني يمتلك كل عناصر القوة، إن تقوية مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني تصب في تقوية الدولة والنظام في مواجهة أي خطر متوقع أو مفاجئ كالذي حدث في فبراير.
إن أي حوار يجب أن ينطلق من هدف أساس هو البحث في كيفية تقوية دولة المؤسسات والقانون، ولا ينطلق من البحث عن كم المكاسب التي سيجنيها المتحاورون أو يتحاصصونها، ويجب أن يكون معيار تقييم نتائج الحوار وضمان نجاحه هو الفائدة التي ستنعكس على وضع المواطن المعيشي والاجتماعي والخدمي وغيرها من المجالات التي ينتظر المواطنون كافة أن يضعها المتحاورون في حساباتهم على طاولة الحوار، وعلى الجمعيات السياسية وخاصة السنية أن تتعامل بشفافية مع شارعها وأن تحسن التواصل معه وإشراكه في موضوع الحوار من محاور ونتائج، وأن تكون ممثلة لمطالبه وطموحاته وهواجسه بحق لا ممثلة لنفسها.
إذا كان مأزق الطائفة الشيعية، كما ذكرت في مقال الأسبوع الماضي، يكمن في أن قوى التأزيم انشقت بها عن الإجماع الوطني والحراك المشترك، فإن مأزق الطائفة السنية يكمن في عدم تمكن الجمعيات السياسية لحد الآن من تمثيلها والتعبير عنها وتقوية موقعها أمام الدولة وأمام قوى التأزيم.