بكلمة موجزة، كانت حركة عدم الانحياز عند ولادتها تبحث لنفسها عن طريق ثالث مختلف يميزها عن الكتلتين العظميين حينها: الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي، والغربية بزعامة واشنطن. واليوم، وفي ظل الظروف التي وصفناها، هل لايزال هناك حيز أمام حركة عدم انحياز من نوع جديد؟ هذا هو التحدي الذي ستواجهه حركة عدم الانحياز وهي تبحث عن ثوبها الجديد الذي يليق بها أولاً، ويؤهلها لممارسة دور إيجابي بناء في العلاقات الدولية ثانياً.
يستدعي ذلك العودة إلى منطلقات الحركة أو بالأحرى مبادئها التي حكمت مسيرتها، وهي 10 مبادئ تنص على:
1- احترام حقوق الإنسان الأساسية ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
2- احترام سيادة كل الدول وسلامة أراضيها.
3- الاعتراف بمساواة جميع الأمم والأجناس.
4- عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة.
5- احترام حق كل أمة في الدفاع عن نفسها فردياً أو جماعياً.
6- منع استخدام الأحلاف العسكرية للضغط على أية دولة.
7- منع استخدام العنف ضد السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي لأي بلد.
8- تسوية المشاكل الدولية بالطرق السلمية.
9- تنمية المصالح المتبادلة والتعاون بين الدول.
10- احترام العدالة والالتزامات الدولية.
تسند تلك المبادئ إلى 7 أهداف، تبحث دولها على التمسك بتلك المبادئ وتنص على:
1- المحافظة على السلم والأمن العالميين.
2- القضاء على الاستعمار بأشكاله المختلفة.
3- تأييد الحركات التحررية للتخلص من الهيمنة الاستعمارية.
4- المساهمة في حل المشاكل الدولية.
5- وضع نظام دولي عادل يساوي بين الجميع.
6- وضع حد للصراع القائم بين المعسكرين.
7- نبذ سياسة الأحلاف.
ولاكتمال الصورة، ينبغي مقارنة الظروف الدولية التي بزغت فيها شمس حركة “عدم الانحياز” على العالم، مع نظيرتها الراهنة، والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1- القطبية المتعددة، فرغم سقوط الاتحاد السوفيتي، واستفراد واشنطن بملعب العلاقات الدولية لفترة إثر ذلك، لكن الأمور باتت مختلفة اليوم، وذلك نظراً لتردي الأوضاع الداخلية الأمريكية، مما أفقدها الكثير من عناصر القوة التي كانت تمنحها القدرة على الهيمنة على العلاقات الدولية. يعيش العالم اليوم حالة شبيهة بتلك التي مر بها في نهاية الحرب الكونية الثانية. فقد نجحت روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وانهيار الكتلة الشرقية، في أن تستعيد بعض أشكال النفوذ ومصادر القوة اللذين افتقدتهما في نهاية القرن العشرين. ولعل في فشل واشنطن في إنهاء “الحالة السورية”، واضطرارها إلى التنسيق مع المحور الروسي – الصيني الكثير من المؤشرات على عودة العالم إلى العلاقات الدولية المتعددة الأقطاب، وليس بالضرورة الثنائية فقط.
2- فشل الولايات المتحدة في إرغام دول كبيرة مثل الهند والصين، وأخرى صغيرة مثل كوريا الجنوبية، على الانصياع لأوامرها، لإعادة هيكلة اقتصادها، بما في ذلك إعادة تسعير عملاتها أمام الدولار الأمريكي، رغم استماتة واشنطن لتحقيق ذلك، فيه الكثير من المؤشرات على بروز محور جديد، في إطار الاقتصاد الرأسمالي، لكنه مستقل تماماً عن نفوذ واشنطن، ويرفض الالتحاف بعباءتها، بل يصر، كما شاهدنا الصين، على أن تكون له حصته المستقلة في العلاقات الدولية التي تبررها الصحة الجيدة التي يتمتع بها اقتصاده، وحصته المتنامية من السوق العالمية. وليست الصراعات التي باتت تشهدها المنظمات الاقتصادية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، إلا علامات بارزة على هذا الطريق، الذي باتت ترسم معالمه الرئيسة محصلة العلاقات بين تلك الدول، دون أن تنفرد بها الولايات المتحدة، كما تدعي، أو بالأحرى تتمنى.
3- عجز الولايات المتحدة عن إرغام دول صغيرة مثل كوريا الشمالية، وإيران، على التراجع عن برامجها النووية، وفشلها في بناء جبهة عالمية قادرة على تحقيق ذلك الهدف الأمريكي، فيه الكثير من الدلائل على الوهن الذي بدأ ينخر الجسم الأمريكي، بما في ذلك أذرعه الضاربة وفي المقدمة منها المؤسسة العسكرية الأمريكية، وبالقدر ذاته، يؤكد أن بوسع مثل تلك الدول أن تؤسس لجبهات تحالف، وإن كانت مؤقتة نسبياً، وفي نطاق ضيق، من أجل تحقيق أهداف محددة، وخلال فترة قصيرة نسبياً. كل ذلك يثبت أن الظروف الدولية الموضوعية مهيأة، بمستوى لا يقل عن تلك التي كانت سائدة في الخمسينات من القرن العشرين، لكنها، وكي تصل إلى حالة النضوج التي تولد حركة “عدم الانحياز” الجديدة، بحاجة إلى تحسين الظروف الذاتية للدول التي ستأخذ على عاتقها بلورة تلك الحركة، وهذا الأمر يتطلب توفر العناصر التالية:
1- بروز شخصية كاريزمية تاريخية، بمستوى، شون لاي، أو عبدالناصر، أو تيتو، أو غاندي، قادرة على أن ترى الأمور من زاوية واسعة تتجاوز بلد تلك الشخصية. ولو فتشنا من بين القادة المعاصرين الذين لايزالون على قيد الحياة، لن نجد سوى شخصية من مستوى مانديلا، الذي لا تساعده ظروفه الشخصية، على تزعم حركة بمثل هذا المستوى من التعقيد، وتقع على عاتقها مهمات قريبة من تلك التي حملتها مبادئ حركة “عدم الانحياز” وأهدافها. هذا إذا تجاوزنا عدم أهلية جنوب أفريقيا كدولة لممارسة مثل هذا الدور القيادي.
2- تقدم دولة، أو مجموعة من الدول، تكون مقتنعة بعجز النظام الدولي الراهن الذي يسير العلاقات بين الدول عن إيجاد صيغة عادلة موضوعية تسود المجتمع الدولي، وبالتالي تناضل من أجل صياغة مشروع دولي ينهي هذه الحالة العاجزة، ويستبدلها بأخرى تتمتع بالديناميكية والحيوية، وفوق هذا وذاك، بالمعايير العادلة، التي تضع حداً للعربدة الأمريكية، التي شهدناها، منذ أفول نجم الاتحاد السوفيتي، وتراجع دور حركة عدم الانحياز، في العراق، وقبل ذلك في أفغانستان، ومؤخراً في ليبيا، ولا نستبعد أن نشاهدها أيضاً، وفي فترة قريبة في سوريا. ولربما تكون الخطوة الأولى على هذه الطريق، هي إصلاح المؤسسات الدولية، وفي المقدمة منها الأمم المتحدة، والمنظمات المنبثقة عنها، أو التابعة لها.
3- مفهوم “عدم الانحياز”: على الرغم من أن نظرية الحياد الإيجابي تعني النأي عن التورط في منازعات الآخرين، لكن مع اتخاذ موقف إيجابي يتمثل في تخفيف حدة التوتر الدولي، ارتأت الدول التي اشتركت في أول مؤتمر قمة لدول “عدم الانحياز” في بلغراد عام 1961 الاستعاضة بعبارة “عدم الانحياز” بدلاً من “الحياد الإيجابي”. وللمصطلح الجديد انتقادات عديدة من قبل بعضهم الذين عدّوا بأن تعبير “عدم الانحياز” يقتصر وحسب على من يقرؤوه للوهلة الأولى على المعنى السلبي، أي عدم التورط في اتخاذ موقف منحاز لأي من أطراف النزاع. بينما يتضمن معنى الحياد الإيجابي وكما أكدته مؤتمرات حركة “عدم الانحياز” جانباً إيجابياً يتمثل في إعلان مواقف محددة تناصر قضايا الاستقلال والتحرر من السيطرة الأجنبية، وتُحَقِّقُ التنمية في المجالات كافة. وعلى أي حال، وتجاوزاً لهذا الجدل الفقهي حول المقصود من نظرية “الحياد الإيجابي” ومفهوم “عدم الانحياز” يُلاحظ تلازمهما في الواقع من حيث المبدأ والهدف، كونهما عبارة عن مواقف تتخذها مجموعة من الدول المتحررة لمواجهة النفوذ الغربي أو الشرقي دون رغبة في التورط مع هذا القطب أو ذاك، أو التورّط في الحرب الباردة، وتسعى إلى تكريس مبادئ التعايش السلمي، والتعاون الدولي، واحترام قواعد القانون والعدالة، حفظاً للسلم والأمن الدوليين.
ولربما من المفيد هنا، ونحن في خضم البحث عن التحديات الراهنة التي تواجهها حركة عدم الانحياز، العودة إلى مفهوم “الحياد الإيجابي”،، الذي رافق الحركة في مراحل نضوجها، والذي يقصد منه “ النأي عن التورط في منازعات الآخرين، لكن مع اتخاذ موقف إيجابي يتمثل في تخفيف حدة التوتر الدولي من خلال تكريس مبادئ التعايش السلمي، والتعاون الدولي، واحترام قواعد القانون والعدالة، حفظاً للسلم والأمن الدوليين”. يقودنا ذلك إلى تحاشي تحول حركة عدم الانحياز الجديدة، كما قد يتوهم البعض إلى كتلة صماء ساكنة غير مؤثرة، بقدر ما يتطلب الأمر بروز حالة دولية تقرأ، بشكل معاصر ساحة العلاقات الدولية، وتخرج من خلال ذلك بإطار جديد لحركة متفاعلة مع العلاقات الدولية ومؤثرة فيها، مستفيدة من وجود تكتلات قائمة، لها وزنها في العلاقات الدولية. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، دول مجلس التعاون الخليجي، بثقله النفطي، المعزز بالسيولة النقدية التي بحوزة دوله، سوية مع الدول الآسيوية، والأمريكية اللاتينية فيما أصبح يعرف بـ«الأسواق الناشئة”، دون أن يستثنى من كل ذلك دول، عضوة في كتلة عدم الانحياز، مثل الهند والصين، بثقلهما السياسي والسكاني، بل وحتى الاقتصادي. لاشك أن هناك تحدياً أمام احتمال تبلور حركة انحياز من طراز جديد، وهو تحد تاريخي، لكنه ليس مستحيلاً ومن ثم قابلاً للتحقيق، متى ما أنضجت الدول المؤمنة بمبادئ الحركة الأساسية أوضاعها الذاتية
يستدعي ذلك العودة إلى منطلقات الحركة أو بالأحرى مبادئها التي حكمت مسيرتها، وهي 10 مبادئ تنص على:
1- احترام حقوق الإنسان الأساسية ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
2- احترام سيادة كل الدول وسلامة أراضيها.
3- الاعتراف بمساواة جميع الأمم والأجناس.
4- عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة.
5- احترام حق كل أمة في الدفاع عن نفسها فردياً أو جماعياً.
6- منع استخدام الأحلاف العسكرية للضغط على أية دولة.
7- منع استخدام العنف ضد السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي لأي بلد.
8- تسوية المشاكل الدولية بالطرق السلمية.
9- تنمية المصالح المتبادلة والتعاون بين الدول.
10- احترام العدالة والالتزامات الدولية.
تسند تلك المبادئ إلى 7 أهداف، تبحث دولها على التمسك بتلك المبادئ وتنص على:
1- المحافظة على السلم والأمن العالميين.
2- القضاء على الاستعمار بأشكاله المختلفة.
3- تأييد الحركات التحررية للتخلص من الهيمنة الاستعمارية.
4- المساهمة في حل المشاكل الدولية.
5- وضع نظام دولي عادل يساوي بين الجميع.
6- وضع حد للصراع القائم بين المعسكرين.
7- نبذ سياسة الأحلاف.
ولاكتمال الصورة، ينبغي مقارنة الظروف الدولية التي بزغت فيها شمس حركة “عدم الانحياز” على العالم، مع نظيرتها الراهنة، والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1- القطبية المتعددة، فرغم سقوط الاتحاد السوفيتي، واستفراد واشنطن بملعب العلاقات الدولية لفترة إثر ذلك، لكن الأمور باتت مختلفة اليوم، وذلك نظراً لتردي الأوضاع الداخلية الأمريكية، مما أفقدها الكثير من عناصر القوة التي كانت تمنحها القدرة على الهيمنة على العلاقات الدولية. يعيش العالم اليوم حالة شبيهة بتلك التي مر بها في نهاية الحرب الكونية الثانية. فقد نجحت روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وانهيار الكتلة الشرقية، في أن تستعيد بعض أشكال النفوذ ومصادر القوة اللذين افتقدتهما في نهاية القرن العشرين. ولعل في فشل واشنطن في إنهاء “الحالة السورية”، واضطرارها إلى التنسيق مع المحور الروسي – الصيني الكثير من المؤشرات على عودة العالم إلى العلاقات الدولية المتعددة الأقطاب، وليس بالضرورة الثنائية فقط.
2- فشل الولايات المتحدة في إرغام دول كبيرة مثل الهند والصين، وأخرى صغيرة مثل كوريا الجنوبية، على الانصياع لأوامرها، لإعادة هيكلة اقتصادها، بما في ذلك إعادة تسعير عملاتها أمام الدولار الأمريكي، رغم استماتة واشنطن لتحقيق ذلك، فيه الكثير من المؤشرات على بروز محور جديد، في إطار الاقتصاد الرأسمالي، لكنه مستقل تماماً عن نفوذ واشنطن، ويرفض الالتحاف بعباءتها، بل يصر، كما شاهدنا الصين، على أن تكون له حصته المستقلة في العلاقات الدولية التي تبررها الصحة الجيدة التي يتمتع بها اقتصاده، وحصته المتنامية من السوق العالمية. وليست الصراعات التي باتت تشهدها المنظمات الاقتصادية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، إلا علامات بارزة على هذا الطريق، الذي باتت ترسم معالمه الرئيسة محصلة العلاقات بين تلك الدول، دون أن تنفرد بها الولايات المتحدة، كما تدعي، أو بالأحرى تتمنى.
3- عجز الولايات المتحدة عن إرغام دول صغيرة مثل كوريا الشمالية، وإيران، على التراجع عن برامجها النووية، وفشلها في بناء جبهة عالمية قادرة على تحقيق ذلك الهدف الأمريكي، فيه الكثير من الدلائل على الوهن الذي بدأ ينخر الجسم الأمريكي، بما في ذلك أذرعه الضاربة وفي المقدمة منها المؤسسة العسكرية الأمريكية، وبالقدر ذاته، يؤكد أن بوسع مثل تلك الدول أن تؤسس لجبهات تحالف، وإن كانت مؤقتة نسبياً، وفي نطاق ضيق، من أجل تحقيق أهداف محددة، وخلال فترة قصيرة نسبياً. كل ذلك يثبت أن الظروف الدولية الموضوعية مهيأة، بمستوى لا يقل عن تلك التي كانت سائدة في الخمسينات من القرن العشرين، لكنها، وكي تصل إلى حالة النضوج التي تولد حركة “عدم الانحياز” الجديدة، بحاجة إلى تحسين الظروف الذاتية للدول التي ستأخذ على عاتقها بلورة تلك الحركة، وهذا الأمر يتطلب توفر العناصر التالية:
1- بروز شخصية كاريزمية تاريخية، بمستوى، شون لاي، أو عبدالناصر، أو تيتو، أو غاندي، قادرة على أن ترى الأمور من زاوية واسعة تتجاوز بلد تلك الشخصية. ولو فتشنا من بين القادة المعاصرين الذين لايزالون على قيد الحياة، لن نجد سوى شخصية من مستوى مانديلا، الذي لا تساعده ظروفه الشخصية، على تزعم حركة بمثل هذا المستوى من التعقيد، وتقع على عاتقها مهمات قريبة من تلك التي حملتها مبادئ حركة “عدم الانحياز” وأهدافها. هذا إذا تجاوزنا عدم أهلية جنوب أفريقيا كدولة لممارسة مثل هذا الدور القيادي.
2- تقدم دولة، أو مجموعة من الدول، تكون مقتنعة بعجز النظام الدولي الراهن الذي يسير العلاقات بين الدول عن إيجاد صيغة عادلة موضوعية تسود المجتمع الدولي، وبالتالي تناضل من أجل صياغة مشروع دولي ينهي هذه الحالة العاجزة، ويستبدلها بأخرى تتمتع بالديناميكية والحيوية، وفوق هذا وذاك، بالمعايير العادلة، التي تضع حداً للعربدة الأمريكية، التي شهدناها، منذ أفول نجم الاتحاد السوفيتي، وتراجع دور حركة عدم الانحياز، في العراق، وقبل ذلك في أفغانستان، ومؤخراً في ليبيا، ولا نستبعد أن نشاهدها أيضاً، وفي فترة قريبة في سوريا. ولربما تكون الخطوة الأولى على هذه الطريق، هي إصلاح المؤسسات الدولية، وفي المقدمة منها الأمم المتحدة، والمنظمات المنبثقة عنها، أو التابعة لها.
3- مفهوم “عدم الانحياز”: على الرغم من أن نظرية الحياد الإيجابي تعني النأي عن التورط في منازعات الآخرين، لكن مع اتخاذ موقف إيجابي يتمثل في تخفيف حدة التوتر الدولي، ارتأت الدول التي اشتركت في أول مؤتمر قمة لدول “عدم الانحياز” في بلغراد عام 1961 الاستعاضة بعبارة “عدم الانحياز” بدلاً من “الحياد الإيجابي”. وللمصطلح الجديد انتقادات عديدة من قبل بعضهم الذين عدّوا بأن تعبير “عدم الانحياز” يقتصر وحسب على من يقرؤوه للوهلة الأولى على المعنى السلبي، أي عدم التورط في اتخاذ موقف منحاز لأي من أطراف النزاع. بينما يتضمن معنى الحياد الإيجابي وكما أكدته مؤتمرات حركة “عدم الانحياز” جانباً إيجابياً يتمثل في إعلان مواقف محددة تناصر قضايا الاستقلال والتحرر من السيطرة الأجنبية، وتُحَقِّقُ التنمية في المجالات كافة. وعلى أي حال، وتجاوزاً لهذا الجدل الفقهي حول المقصود من نظرية “الحياد الإيجابي” ومفهوم “عدم الانحياز” يُلاحظ تلازمهما في الواقع من حيث المبدأ والهدف، كونهما عبارة عن مواقف تتخذها مجموعة من الدول المتحررة لمواجهة النفوذ الغربي أو الشرقي دون رغبة في التورط مع هذا القطب أو ذاك، أو التورّط في الحرب الباردة، وتسعى إلى تكريس مبادئ التعايش السلمي، والتعاون الدولي، واحترام قواعد القانون والعدالة، حفظاً للسلم والأمن الدوليين.
ولربما من المفيد هنا، ونحن في خضم البحث عن التحديات الراهنة التي تواجهها حركة عدم الانحياز، العودة إلى مفهوم “الحياد الإيجابي”،، الذي رافق الحركة في مراحل نضوجها، والذي يقصد منه “ النأي عن التورط في منازعات الآخرين، لكن مع اتخاذ موقف إيجابي يتمثل في تخفيف حدة التوتر الدولي من خلال تكريس مبادئ التعايش السلمي، والتعاون الدولي، واحترام قواعد القانون والعدالة، حفظاً للسلم والأمن الدوليين”. يقودنا ذلك إلى تحاشي تحول حركة عدم الانحياز الجديدة، كما قد يتوهم البعض إلى كتلة صماء ساكنة غير مؤثرة، بقدر ما يتطلب الأمر بروز حالة دولية تقرأ، بشكل معاصر ساحة العلاقات الدولية، وتخرج من خلال ذلك بإطار جديد لحركة متفاعلة مع العلاقات الدولية ومؤثرة فيها، مستفيدة من وجود تكتلات قائمة، لها وزنها في العلاقات الدولية. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، دول مجلس التعاون الخليجي، بثقله النفطي، المعزز بالسيولة النقدية التي بحوزة دوله، سوية مع الدول الآسيوية، والأمريكية اللاتينية فيما أصبح يعرف بـ«الأسواق الناشئة”، دون أن يستثنى من كل ذلك دول، عضوة في كتلة عدم الانحياز، مثل الهند والصين، بثقلهما السياسي والسكاني، بل وحتى الاقتصادي. لاشك أن هناك تحدياً أمام احتمال تبلور حركة انحياز من طراز جديد، وهو تحد تاريخي، لكنه ليس مستحيلاً ومن ثم قابلاً للتحقيق، متى ما أنضجت الدول المؤمنة بمبادئ الحركة الأساسية أوضاعها الذاتية