أي مبادرة أو وساطة من النوع الذي طرحه الرئيس المصري الجديد محمد مرسي على القمة الإسلامية كان ليكون مجدياً -نظرياً- مع بدايات الانتفاضة الشعبية في سوريا وليس الآن. قبل 18 شهراً كان لايزال “مفهوماً” أن يقصد وفد عالي المستوى دمشق لمناشدة رئيس النظام، باسم العالم الإسلامي وقيم الإسلام، وقف القمع الدموي والجنوح إلى السلم الأهلي. ففي ذلك الوقت، لم يكن حتى أكثر عارفي النظام قادرين على تشخيص طبيعته وحقيقته بأنه مجرد آلة للقتل استطاعت أن تتنكّر لبضعة عقود بباقة من الشعارات الفارغة، من عروبة وقومية إلى مقاومة وممانعة، أما اليوم فباتت وحشيته مشهورة “كونياً” ولم يعد قادراً على العودة إلى الوراء.
لذلك، فإنه سيفهم أي مبادرة نحوه إنعاشاً لـ«شرعية” قتلها عشرات آلاف المرّات وتزكيةً لـ«انتصاره” على الشعب، وبالتالي سيستغلّها للمساومة من أجل بقائه في السلطة على رغم الدماء التي سفكها. وفي هذه المساومة لن يجد تنازلات يقدمها إلى الدول الأربع المقترحة “السعودية ومصر وتركيا وإيران” على افتراض اتفاقها على أهداف المبادرة، وباستثناء إيران فهو لا يعتبر الدول الثلاث الأخرى قادرة على توفير أي من الضمانات التي يبحث عنها. وإذا وجد تنازلات فهو يدّخرها للمساومة الأكبر التي يحاول استدراجها مع الولايات المتحدة والدول الغربية، وسيواصل المحاولة من خلال تفجير الوضع في لبنان، ذاك أنه لايزال يتوهّم بأن ثمة توقاً دولياً إلى دوره السابق ومعاودته اللعب بالأوراق الإقليمية.
قد يُفهم الاقتراح المصري المتأخر بأنه محاولة لشقّ طريق إلى تسوية سياسية داخلية، طالما أن عزل النظام ونبذه وفرض عقوبات عليه وتركه يواجه مصيره بترسانته الروسية - الإيرانية - الكورية الشمالية لا تبدو مجدية. لكن ينبغي التيقن بأنه يبحث فعلاً عن حل سياسي ولا ينتهز أي “وساطة” لإطلاق مناورة جديدة. اسألوا المنشقّين فهم أدرى. اسألوا كوفي عنان. بل اسألوا الروس والإيرانيين. سيقول هؤلاء جميعاً، على اختلاف مواقعهم، إن النظام مدرك أن الحل السياسي يعني نهايته، لذا يرجّح الحل العسكري الذي يعتقد أنه وحده يبقيه في الحكم بل يريد ممن يحاوره أن يقتنع مثل روسيا وإيران بهذا الخيار، كونه الوحيد الضامن “استقرار” سوريا.
انطلاقاً من ذلك يبدي النظام استعداداً للتعامل مع أي موفد يتعامل معه على أنه هو “الدولة” والسلطة والقانون، وأن كل من يعارضه في الشارع متمرد خارج على القانون. هذا ما فعله عنان فحصد الفشل، لأن التفويض الذي يملكه لا يتيح له القول لبشار الأسد: ليس هناك قانون يجيز لأي دولة أو سلطة الإفراط في العنف إلى هذا الحدّ، وعندما لا تتصرفون كدولة تصبحون مجرد طرف وتفقدون صلاحية التلويح بالقانون وتعرّضون شرعيتكم الدستورية للتآكل، وهذا هو واقعكم حالياً.
ليس مؤكداً أن تفويض الأخضر الإبراهيمي سيمكّنه من هذا الوضوح مع الأسد، لكنه مضطر لمصارحته بشكل أو بآخر بأن شرعيته اهتزّت، كما سيفهم المعارضة أن وضعها الراهن لا يوصلها إلى هدفها. لذلك فهو يفضل ألا يُبنى الكثير من التوقعات على مهمته. صحيح أنه لا يريد ارتكاب أخطاء عنان لكنه غير واثق بأن أسلوبه سيحقق اختراقاً سريعاً. لن ينهج التجريب بل سيضع كل طرف أمام واقعه ومسؤولياته. بادر النظام السوري إلى الترحيب بتعيينه، ثم اشتبك معه حول تصريحاته، ولن يستمر الترحيب حين يستنتج النظام أنه لن يتمكن من استخدام هذا الموفد، كما فعل وحليفاه الروسي والايراني مع سلفه. وكان “المجلس الوطني السوري” المعارض رحّب أيضاً بالإبراهيمي ثم تصيّده عندما قال إن من السابق لأوانه الحديث عن تنحّي بشار الأسد. فالمعارضة سجّلت قول عنان في وداع مهمته إن الحل يبدأ “برحيل الأسد عاجلاً أو آجلاً”. كما إن الجامعة العربية حددت في قراراتها الأخيرة “انتقال السلطة” عنواناً لعمل أي موفد دولي جديد.
يُلاحظ أن وقف العنف أو وقف إطلاق النار لم يعد هدفاً ذا أولوية، لأنه لم يعد ممكناً ولا واقعياً. ذاك أن طرفي النزاع لا يريدانه. ما يعني تلقائياً أن الحل السياسي، حتى لو كان هدفاً مرتجى، ليس ممكناً بالمعطيات الراهنة. فمعادلة عجز النظام عن الحسم وعجز المعارضة عن إطاحته لاتزال سائدة عملياً، ولم تسقطها تغييرات باتت تطرأ ومنها تحسّن نوعي في الأداء العسكري للمعارضة، لكن الانطباع العام في الداخل كما في الخارج يفيد بأن النظام يتآكل بفعل الانشقاقات النوعية. ومع انتهاء مهمة عنان بدا كأن الدور الروسي خسر حلبة للمناورة، لذا حاول إحياء اتفاق جنيف في 30 يونيو الماضي، الذي كانت موسكو بالغت في تعديله حتى أماتته مضموناً وفاعليةً. واتضح الارتباك الروسي في اقتراح توجيه نداء إلى “جميع الأطراف” لوقف إطلاق النار. وانكشف الارتباك أكثر مع إعلان موسكو أن مهمة الإبراهيمي يجب أن تنطلق من خطة عنان ذات النقاط الست، إذ استشعرت بأن هذه الخطة وإنْ بقيت على الطاولة لن تكون أساساً لعمل الموفد الجديد. باتت روسيا تخشى انزلاق المقاربة الدولية – العربية أكثر فأكثر إلى منطق التدخل من خارج مظلة مجلس الأمن، بفعل تصاعد القتال وانتشاره في معظم أنحاء سوريا.
وفي هذه المواجهة تعتبر روسيا أنها مدّت النظام السوري بكل ما يلزمه من قدرات نارية، في حين أن الولايات المتحدة وحلفاءها لايزالون في أول الطريق مع المعارضة، على رغم أن الأمريكيين زادوا أخيراً جرعة اهتمامهم بتفاصيل ما يحصل على الأرض من خلال تركيا والأردن. ومع الانحسار التكتيكي للدور الروسي، استئخاراً لمواجهة دولية لم يحن وقتها بعد، قفزت إيران الى الواجهة. لم تعد طهران تراهن على المفاوضات النووية لتحصل على رفع للعقوبات أو لتجرّب من خلالها إنقاذ النظام السوري، كما فعلت في جولة بغداد عندما طرحت مقايضة وقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% لقاء التفاهم على سوريا، بل أخذت تُظهر أن الدفاع عن وجودها ونفوذها ودورها في سوريا يتطلّب أن تنبري لمشاركة النظام في حربه على المعارضة. كانت طهران تأمل بأن تشقّ لها روسيا ممراً إلى مسرح الصراع، وإذ لم تفلح قررت أن تزيد من علنية تدخلها في سوريا، فتصوّره نوعاً من “الجهاد المقدّس” ضد الغرب ومؤامراته، بل إن أحد مسؤوليها اعتبره “المباراة النهائية” مع “التيار الإسلامي” والنفوذ الأمريكي في المنطقة.
هذه مجرد مقدّمات في انتظار بدء الإبراهيمي عمله بالمفاهيم الجديدة لمهمته. والأكيد أنه سيركز على “عملية سياسية” لكن بمعادلة مختلفة تكون فيها الأطراف المعنية طالبة للوساطة ومستعدة لتسهيلها، وعندئذ تكون الأمم المتحدة جاهزة للعمل على ما تطرحه الأطراف نفسها. فإذا رغب النظام والمعارضة في حل سياسي سيكون عليهما طرح أفكارهما والتزاماتهما، وإذا أرادا المناورة فلن يجدا استجابة من الموفد الجديد. بدأت موسكو التهيؤ لهذا التحدي مع فريق حكومي سوري قوامه “المعارضة الموالية”. في الجانب الآخر، يعوَّل على المنشقين الجدد لخلط أوراق المعارضة اذ إن الحاجة مسَّت أخيراً إما إلى
«حكومة انتقالية” أو إلى بلورة كيان معارض جديد. فأكثر ما يُخشى هو الانهيار المفاجئ للنظام من دون أن يكون هناك فريق معارض جاهز لتسلّم زمام البلاد.
عن صحيفة «الحياة» اللندنية
لذلك، فإنه سيفهم أي مبادرة نحوه إنعاشاً لـ«شرعية” قتلها عشرات آلاف المرّات وتزكيةً لـ«انتصاره” على الشعب، وبالتالي سيستغلّها للمساومة من أجل بقائه في السلطة على رغم الدماء التي سفكها. وفي هذه المساومة لن يجد تنازلات يقدمها إلى الدول الأربع المقترحة “السعودية ومصر وتركيا وإيران” على افتراض اتفاقها على أهداف المبادرة، وباستثناء إيران فهو لا يعتبر الدول الثلاث الأخرى قادرة على توفير أي من الضمانات التي يبحث عنها. وإذا وجد تنازلات فهو يدّخرها للمساومة الأكبر التي يحاول استدراجها مع الولايات المتحدة والدول الغربية، وسيواصل المحاولة من خلال تفجير الوضع في لبنان، ذاك أنه لايزال يتوهّم بأن ثمة توقاً دولياً إلى دوره السابق ومعاودته اللعب بالأوراق الإقليمية.
قد يُفهم الاقتراح المصري المتأخر بأنه محاولة لشقّ طريق إلى تسوية سياسية داخلية، طالما أن عزل النظام ونبذه وفرض عقوبات عليه وتركه يواجه مصيره بترسانته الروسية - الإيرانية - الكورية الشمالية لا تبدو مجدية. لكن ينبغي التيقن بأنه يبحث فعلاً عن حل سياسي ولا ينتهز أي “وساطة” لإطلاق مناورة جديدة. اسألوا المنشقّين فهم أدرى. اسألوا كوفي عنان. بل اسألوا الروس والإيرانيين. سيقول هؤلاء جميعاً، على اختلاف مواقعهم، إن النظام مدرك أن الحل السياسي يعني نهايته، لذا يرجّح الحل العسكري الذي يعتقد أنه وحده يبقيه في الحكم بل يريد ممن يحاوره أن يقتنع مثل روسيا وإيران بهذا الخيار، كونه الوحيد الضامن “استقرار” سوريا.
انطلاقاً من ذلك يبدي النظام استعداداً للتعامل مع أي موفد يتعامل معه على أنه هو “الدولة” والسلطة والقانون، وأن كل من يعارضه في الشارع متمرد خارج على القانون. هذا ما فعله عنان فحصد الفشل، لأن التفويض الذي يملكه لا يتيح له القول لبشار الأسد: ليس هناك قانون يجيز لأي دولة أو سلطة الإفراط في العنف إلى هذا الحدّ، وعندما لا تتصرفون كدولة تصبحون مجرد طرف وتفقدون صلاحية التلويح بالقانون وتعرّضون شرعيتكم الدستورية للتآكل، وهذا هو واقعكم حالياً.
ليس مؤكداً أن تفويض الأخضر الإبراهيمي سيمكّنه من هذا الوضوح مع الأسد، لكنه مضطر لمصارحته بشكل أو بآخر بأن شرعيته اهتزّت، كما سيفهم المعارضة أن وضعها الراهن لا يوصلها إلى هدفها. لذلك فهو يفضل ألا يُبنى الكثير من التوقعات على مهمته. صحيح أنه لا يريد ارتكاب أخطاء عنان لكنه غير واثق بأن أسلوبه سيحقق اختراقاً سريعاً. لن ينهج التجريب بل سيضع كل طرف أمام واقعه ومسؤولياته. بادر النظام السوري إلى الترحيب بتعيينه، ثم اشتبك معه حول تصريحاته، ولن يستمر الترحيب حين يستنتج النظام أنه لن يتمكن من استخدام هذا الموفد، كما فعل وحليفاه الروسي والايراني مع سلفه. وكان “المجلس الوطني السوري” المعارض رحّب أيضاً بالإبراهيمي ثم تصيّده عندما قال إن من السابق لأوانه الحديث عن تنحّي بشار الأسد. فالمعارضة سجّلت قول عنان في وداع مهمته إن الحل يبدأ “برحيل الأسد عاجلاً أو آجلاً”. كما إن الجامعة العربية حددت في قراراتها الأخيرة “انتقال السلطة” عنواناً لعمل أي موفد دولي جديد.
يُلاحظ أن وقف العنف أو وقف إطلاق النار لم يعد هدفاً ذا أولوية، لأنه لم يعد ممكناً ولا واقعياً. ذاك أن طرفي النزاع لا يريدانه. ما يعني تلقائياً أن الحل السياسي، حتى لو كان هدفاً مرتجى، ليس ممكناً بالمعطيات الراهنة. فمعادلة عجز النظام عن الحسم وعجز المعارضة عن إطاحته لاتزال سائدة عملياً، ولم تسقطها تغييرات باتت تطرأ ومنها تحسّن نوعي في الأداء العسكري للمعارضة، لكن الانطباع العام في الداخل كما في الخارج يفيد بأن النظام يتآكل بفعل الانشقاقات النوعية. ومع انتهاء مهمة عنان بدا كأن الدور الروسي خسر حلبة للمناورة، لذا حاول إحياء اتفاق جنيف في 30 يونيو الماضي، الذي كانت موسكو بالغت في تعديله حتى أماتته مضموناً وفاعليةً. واتضح الارتباك الروسي في اقتراح توجيه نداء إلى “جميع الأطراف” لوقف إطلاق النار. وانكشف الارتباك أكثر مع إعلان موسكو أن مهمة الإبراهيمي يجب أن تنطلق من خطة عنان ذات النقاط الست، إذ استشعرت بأن هذه الخطة وإنْ بقيت على الطاولة لن تكون أساساً لعمل الموفد الجديد. باتت روسيا تخشى انزلاق المقاربة الدولية – العربية أكثر فأكثر إلى منطق التدخل من خارج مظلة مجلس الأمن، بفعل تصاعد القتال وانتشاره في معظم أنحاء سوريا.
وفي هذه المواجهة تعتبر روسيا أنها مدّت النظام السوري بكل ما يلزمه من قدرات نارية، في حين أن الولايات المتحدة وحلفاءها لايزالون في أول الطريق مع المعارضة، على رغم أن الأمريكيين زادوا أخيراً جرعة اهتمامهم بتفاصيل ما يحصل على الأرض من خلال تركيا والأردن. ومع الانحسار التكتيكي للدور الروسي، استئخاراً لمواجهة دولية لم يحن وقتها بعد، قفزت إيران الى الواجهة. لم تعد طهران تراهن على المفاوضات النووية لتحصل على رفع للعقوبات أو لتجرّب من خلالها إنقاذ النظام السوري، كما فعلت في جولة بغداد عندما طرحت مقايضة وقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% لقاء التفاهم على سوريا، بل أخذت تُظهر أن الدفاع عن وجودها ونفوذها ودورها في سوريا يتطلّب أن تنبري لمشاركة النظام في حربه على المعارضة. كانت طهران تأمل بأن تشقّ لها روسيا ممراً إلى مسرح الصراع، وإذ لم تفلح قررت أن تزيد من علنية تدخلها في سوريا، فتصوّره نوعاً من “الجهاد المقدّس” ضد الغرب ومؤامراته، بل إن أحد مسؤوليها اعتبره “المباراة النهائية” مع “التيار الإسلامي” والنفوذ الأمريكي في المنطقة.
هذه مجرد مقدّمات في انتظار بدء الإبراهيمي عمله بالمفاهيم الجديدة لمهمته. والأكيد أنه سيركز على “عملية سياسية” لكن بمعادلة مختلفة تكون فيها الأطراف المعنية طالبة للوساطة ومستعدة لتسهيلها، وعندئذ تكون الأمم المتحدة جاهزة للعمل على ما تطرحه الأطراف نفسها. فإذا رغب النظام والمعارضة في حل سياسي سيكون عليهما طرح أفكارهما والتزاماتهما، وإذا أرادا المناورة فلن يجدا استجابة من الموفد الجديد. بدأت موسكو التهيؤ لهذا التحدي مع فريق حكومي سوري قوامه “المعارضة الموالية”. في الجانب الآخر، يعوَّل على المنشقين الجدد لخلط أوراق المعارضة اذ إن الحاجة مسَّت أخيراً إما إلى
«حكومة انتقالية” أو إلى بلورة كيان معارض جديد. فأكثر ما يُخشى هو الانهيار المفاجئ للنظام من دون أن يكون هناك فريق معارض جاهز لتسلّم زمام البلاد.
عن صحيفة «الحياة» اللندنية