تناقلت وكالات الأنباء والفضائيات ملخص تحذيرات رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني (إم آى 5) جوناثان إيفانز من “ تزايد عدد البريطانيين الذين يتلقون التدريب في دول الربيع العربي على ممارسة أعمال إرهابية”، مضيفاً أن “دول الربيع العربي غير المستقرة التي شهدت ثورات للإطاحة بأنظمة الحكم فيها تجذب عناصر تنظيم القاعدة والمتشددين البريطانيين الساعين إلى الحصول على تدريبات على ممارسة الإرهاب”. المقصود هنا، حاملي الجنسية البريطانية من أصول عربية.
تكتسب تصريحات إيفانز أهميتها من ثلاثة عناصر رئيسة، تتفاعل جميعها، كي تحول تلك النبرة القاسية فيها إلى خطاب تحذيري، شبه رسمي، موجه إلى العديد من الحكومات العربية، ليست الدول التي عرفت ما أصبح يوصف بـ “الربيع العربي” سوى الجزء الصغير الأكثر بروزاً منها، داعياً إياها أن تضاعف إجراءاتها الأمنية كي تحول دون وقوع أي حدث يمكن أن يعكر صفو السياحة الصيفية في لندن، التي ستستقبل هذا العام، أيضاً، دورة الألعاب الأولمبية. بالقدر ذاته، يسعى إيفانز إلى إشاعة شيء من الطمأنينة في قلوب الإنجليز كشعب، ومن له علاقة بالألعاب الأولمبية كمشروع استثماري، كي يستثمروا في موقفهم الإيجابي المتفائل إزاء ذلك الحدث.
أول تلك العناصر هو الشخص الذي أطلق تلك التحذيرات، فهو، جوناثان إيفانز، يحتل منصب رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني (إم آى 5)، أي الجهة المعنية مباشرة بالأمن الداخلي للدولة البريطانية، ومن ثم، فمن الطبيعي أن تأخذ جميع الأجهزة المعنية بذلك الأمن، أقوال إيفانز مأخذ الجد، وتعطيها أولوية تفوق ما يصدر عن أي مسؤول آخر، حتى لو كان ذلك المسؤول رئيس الوزراء البريطاني ذاته، فليس هناك من يعرف آلية صنع القرارات داخل أروقة المؤسسة الحاكمة في لندن، من يجهل انعكاسات مثل تلك التصريحات على الجاهزية التي ستصل لها أجهزة الأمن البريطانية خلال الفترة القادمة، وتحديداً من الآن، وحتى اختتام دورة الألعاب الأولمبية التي ستجري في صيف هذا العام بلندن. ومن الطبيعي أن يهدف إيفانز هنا، ولو بشكل غير مباشر إلى انتزاع المزيد من مراكز القوى، شبيهة بتلك التي تمتع بها (إم آى 5)، في صيفية العام 2005، عندما تعرضت لندن لسلسلة تفجيرات عرفت باسم “تفجيرات شبكة مترو الأنفاق”، قام بتنفيذها حينها أربعة مسلمين بريطانيين، وأدت إلى مقتل 52 شخصاً.
العنصر الثاني، هو المكان، فاختيار مقر عمدة حي المال والأعمال في لندن موقعاً لهذا التصريح، وهو الأول خلال العامين الماضيين، يضفي على الخطاب أبعاداً أخرى تتجاوز القضية الأمنية، كي تلامس المسألة المالية، والحالة الاقتصادية، في بريطانيا، التي تعترف كل المؤشرات بترديها في الفترة الأخيرة، وليس هناك ما يبشر بتحسنها في المستقبل القريب، خاصة مع الأزمات المتلاحقة التي تضرب الأوضاع الاقتصادية في منطقة اليورو، والتي رغم عدم انتماء الاقتصاد البريطاني لها عضوياً، لكنه يتأثر بأصدائها عملياً. فلا تزال تصريحات رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، التي أطلقها في 25 أبريل 2012، والتي عبر فيها عن “خيبة أمله في أرقام الناتج المحلي الإجمالي، التي تعني أن بريطانيا دخلت من جديد في مرحلة ركود، وأن السلطات البريطانية ستفعل كل ما في وسعها للحيلولة دون نشوب أزمة اقتصادية جديدة”، ماثلة أمام أنظار جميع من يتابعون حركة السوق البريطانية، وتعنيهم أوضاعها. وكان كاميرون يشير حينها إلى “تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي البريطاني بنسبة 0.2% خلال الفصل الأول من العام 2012 وذلك بالمقارنة مع الفصل السابق”. ويرى المراقبون المتابعون لحركة تلك السوق “أنه إذا ما أُخذ في الحسبان أن النمو السلبي يسجل خلال الفصل الثاني على التوالي، يمكن القول إن اقتصاد بريطانيا يواجه ركوداً جديداً”. يضاعف من سوء تلك الأحوال الاقتصادية المتردية شبح البطالة المخيم على السوق البريطانية، والتي حذر منها، على المدى البعيد، تقرير صدر في مطلع العام 2012 عن (معهد أبحاث السياسة العامة)، معتبراً إياها “أزمة مخفية”، بعد أن وصلت إلى “أعلى مستوى لها منذ عام 1995 ببلوغها 2.75 مليون عاطل مع توقعات بارتفاعها خلال الأشهر المقبلة”. يترافق ذلك مع كل ذلك زيادة ، لم تكن متوقعة، في معدلات التضخم في مارس 2012، سببه “ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتكلفة الملابس”. وتحدثت المؤسسات المراقبة لمؤشر أسعار المستهلك، ارتفاعاً في تلك المؤشرات “وصل إلى 3.5 في المئة بعد أن كان 3.4 في المئة في شهر فبرايرالماضي”.
العنصر الثالث هو التوقيت، فهو يأتي وبريطانيا على أبواب احتضان الألعاب الأولمبية 2012، حيث تستضيف لندن دورة الأولمبياد لعام 2012 خلال الفترة من 27 يوليو إلى 12 أغسطس 2012. ولندن، بهذه المناسبة، هي أول مدينة تستضيف الألعاب الأولمبية الحديثة للمرة الثالثة. كل ذلك يجعل من صيف بريطانيا هذا العام مجالاً لمضاعفة الدخل، وتحسين أوضاع الاقتصاد. من هنا، فإن أيفانز، كما يبدو، يحاول أن يشدد على ضرورة استعداد لندن لمواجهة أية أعمال “إرهابية” من شأنها إشاعة أي شكل من أشكال “الاضطراب”، كتلك التي نفذتها منظمة “أيلول الأسود” في مدينة ميونيخ الألمانية أثناء استضافة المدينة لدورة الألعاب في صيف العام 1972، وكانت مطالبها “ الإفراج عن 236 معتقلاً في السجون الإسرائيلية معظمهم من العرب بالإضافة إلى كوزو أوكاموتو من الجيش الأحمر الياباني”. ولم يخف إيفانز هذه المسألة، حيث أشار إلى أن أولمبياد لندن “هدف جذب لأعدائنا”، مشيراً إلى من ينوون القيام بأعمال “إرهابية”، لكنه عاد، في الخطاب ذاته، وكي يثير الاطمئنان في قلوب من كانوا يستمعون لكلمته من رجال المال والأعمال، ليؤكد “مساندته لقوى الأمن التي من شأنها تأمين الحدث المرتقب عالمياً”.
كل هذه العوامل، ستكون محصلتها على أرض الواقع، مزيداً من الإجراءات الأمنية تطبق على من يفد إلى بريطانيا قادماً من الدول العربية، وعلى وجه الخصوص من أبنائها، لكن ما هو أخطر من ذلك، هو احتمال أن تتحول إشارات إيفانز الاتهامية إلى دول الربيع العربي، إلى مطالبة تلك الدول، طالما أن مواطن الخطر تأتي منها، إلى تحمل حصة، ربما تكون عالية من بند جديد يضاف إلى موازنة الخطة الأمنية البريطانية الخاصة بحماية الألعاب الأولمبية، وهو أمر غير مستبعد، لجأت إليه واشنطن من قبل في حربها ضد القوات السوفياتية في أفغانستان. كما لجأت إليه بريطانيا، عندما طالب رئيس وزرائها جوردون في جولته الخليجية في العام 2008 ضخ مليارات الدولارات في صندوق النقد الدولي “لمساعدة الدول المتأثرة بالأزمة المالية العالمية”، التي لم تكن هي مسؤولة عنها. وطالب براون حينها “السعودية والدول الخليجية الأخرى تقديم المساعدة التي يمكنها المساهمة بها في الحد من تداعيات تلك الأزمة”.
فهل تخضع العواصم العربية، وتحديداً النفطية منها، والتي لم تشهد سوى ليبيا من بينها “ربيعاً عربياً”، لمثل هذا الابتزاز، فيما لو مارسه إيفانز ودولته من ورائه تجاهها؟