سجل الرئيس المصري محمد مرسي بين أول خطاب ألقاه في ميدان التحرير بعد إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية، وآخر واحد له أمام الحفل العسكري الذي تسلم فيه بشكل نهائي مقاليد السلطة في مصر، رقماً قياسياً في عدد الخطابات التي ألقاها في فترة زمنية لم تتجاوز 48 ساعة. خلال ذلك المشوار القصير -زمنياً- الذي قطعه مرسي جاءت الخطابات الأربعة متميزة في بعض جوانبها كي تلائم المكان والحاضرين فيه، لكنها حافظت على عنصر مشترك ساد جزءاً منها بشكل ملحوظ، وكأنما أصر مرسي على إبرازه بين ثنايا كلماته الأربع التي ألقاها خلال تلك الفترة القصيرة، وهو الهدنة المؤقتة التي يريدها أن تنظم العلاقة التي ستنشأ بينه وبين المؤسسة العسكرية.
لذلك جاءت كلمته في ميدان التحرير ذات طابع شعبي تحريضي تخاطب الحشود التي تجمهرت كي تنصت إليه، وتستمع إلى إستمرار انحيازه لصالح مطالب الثورة، وتمسكه بحماية مكتسباتها، وعدم التراجع عنها، فوجدناه يكرر مع الجماهير شعار «ثوار أحرار.. حنكمل المشوار»، ملمحاً بشكل ذكي غير استفزازي لأي من مؤسسات الدولة، بما فيها القوات المسلحة أنه صاحب القرار غير المستعد للتفريط بصلاحياته التي يستمدها من تأييد الشعب له الذي انتخبه، وها هو الحشد الكبير يجدد له البيعة. برز ذلك التمسك بحقه في استقلالية قراره حين رفع نبرة خطابه قائلاً «أنا صاحب القرار في مصر بإرادتكم وتوكيلكم، وأن إرادة الشعب مصدر السلطة ولا سلطة أو مؤسسة فوق سلطة الشعب، وأنه سيعمل من أجل دولة مدنية».
مقابل ذلك كان خطابه أمام الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية بعد أدائه اليمين الدستوري، ذا لهجة حقوقية غلب على مفرداته إبرازه لحرصه «على احترام الدستور وضمان صيانة مواده، (وتمسكه بالمحافظة) على استقلال المؤسسات القضائية لتكون قوية وفاعلة لا يؤثر عليها مؤثر، وهي مؤسسة حرة على أرض حرة، مع شعب حر»، مضيفاً «بعد هذا القسم أتوجه بالتحية من القلب إلى شعب مصر، وأتوجه بالتحية الواجبة إلى الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية برئيسها وأعضائها جميعاً، هذا الصرح هذه المؤسسة التي نحرص جميعاً شعباً وسلطة تنفيذية وتشريعة، نحرص هكذا يجب وأحرص على أن تبقى هذه المؤسسة مستقلة قوية فاعلة»، منوهاً إلى نزاهة أعضائها بالقول «الحمدلله أن هذه المؤسسات بها رجال مخلصين لوطنهم، حريصين على تحقيق المصلحة، وهم يعرفون ويعلمون معنى احترام الدستور والقانون والأحكام».
اختلفت النبرة في خطاب لقاء جامعة القاهرة الذي حضره العديد من الشخصيات السياسية من بينها، إلى جانب القيادات العسكرية أعضاء من مجلسي الشعب والشورى. فوجدنا في ذلك الخطاب المعد سلفاً إشارة واضحة للقوات المسلحة والشرطة، مشيداً بدورهما خلال الأزمة، وتوج ذلك بتعهده بـ»الحفاظ على القوات المسلحة وحمايتها لتكون أقوى مما كانت ولتستمر راسخة لتكون مع الشعب»، دون أن يتردد في الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك حين قال بأن «القوات المسلحة هي درع الوطن وسيفه الذي يردع كل من تسول له نفسه المساس بأمن مصر»، مشدداً على القول «سأحافظ على المؤسسة العسكرية وأدعمها وأتخذ كل الوسائل ليكون الشعب معها».
تصاعدت نبرة البحث عن هدنة مع القوات في خطاب منصة الاحتفال العسكري الذي تسلم فيه درع القوات المسلحة، حيث سيطرت على الخطاب وفي أكثر من مكان، مفردات الاعتراف بدور القوات المسلحة في الإبحار بسفينة الثورة إلى بر الأمان، واصفاً يوم تسليم السلطة من الجيش إلى رئيس منتخب بأنه يعكس» يوماً فارقاً في تاريخ مصر، (مستطرداً) أن هذا اليوم سيدرس في التاريخ، ويحفر بخطوط من نور وسيكون نبراساً للأجيال القادمة، (مؤكداً) أن الوطن بحاجة إلى القوات المسلحة في الداخل لحين استتباب الأمن، (واعداً) بأنه سيسعى إلى إعادة ترتيب جهاز الأمن المصري وتعهد بعدم المساس بأي حق من حقوق قوات الأمن، (مشيراً) بالتزامه بالعمل على تقصير الفترة الانتقالية حتى تتاح الفرصة للقوات المسلحة لحماية الوطن»، منهياً كل ذلك بوعد علني أن يحرص شخصياً على القيام «بتنظيم حفل لتكريم القوات المسلحة».
مقابل ذلك وجه المجلس العسكري على لسان المشير طنطاوي الشكر إلى مرسي مثنياً على «إشادته البالغة بالقوات المسلحة»، مؤكداً فيما يشبه الرد على ما جاء في كلمة مرسي «ولاء الجيش للشعب والوطن»، مبدياً استعداده لفتح صفحة جديدة مع الرئيس المنتخب، حين قال «آن الآوان لندع الماضي خلفنا». ولم ينس طنطاوي أن يهدي مرسي درع القوات المسلحة، الذي وصفه بأنه «أغلى ما تملك القوات المسلحة».
بعيداً عن كل التفاصيل الأخرى التي وردت في خطابات مرسي، وكلمة طنطاوي، بوسع من يقرأ الاثنين بشيء من التمعن أن يكتشف حرص كليهما على الوصول إلى ما يشبه الهدنة، حتى وإن كانت مؤقتة، من أجل إعادة تنظيم كل منهما على حدة بيته من الداخل، استعداداً لأي صدام سياسي محتمل بين المؤسسة العسكرية، والرئيس المنتخب. ولهذا السلوك ما يفسره وما يبرره.
أما التفسير فينطلق من شعور الاثنين بأنهما أصبحا الوحيدين، دون سائر الأفراد والمؤسسات الباحثين عن دور في صنع القرار في السياسة المصرية، اللذين يملكان القدرة والنفوذ اللذين يبيحان لهما التحكم في رسم معالم أرض الحقائق في المجتمع المصري، دولة ومؤسسات مجتمع مدني، بل وحتى أفراد. فبينما يملك طنطاوي بين يديه أوراق أكثر المؤسسات تنظيماً ونفوذاً في مصر والتي هي القوات المسلحة، وكل ما يدور في فلكها من إدارات حكومية، وقوى اجتماعية ذات مصالح مشتركة بذلك النفوذ، يقف مرسي، قبل أن يكون رئيساً، مستنداً إلى سد منيع وحائط قوي بنته «طوبة طوبة»، كما يقول المصريون، تضحيات الشارع المصري بقواه السياسية المعارضة، بفئاتها المختلفة، وبألوان طيوفها السياسية المتعددة، واستعدادها للدفاع عن المكاسب التي تحققت، وإصرارها على عدم التراجع عن أي منها.
أما التبرير فهو، أنه بينما يستمد طنطاوي نفوذه من الدولة ومؤسساتها، يحتكر مرسي، بشكل إيجابي، قرار تحريك الشارع المصري بكل زخمه وعنفوانه، وهو ما أثبتته مسيرة الانتخابات الرئاسية أمام كل منعطف وقفت أمامه جماهير ذلك الشارع، التي لم يعد في نيتها التراجع عن مطالبها أو التفريط في مكاسبها، وفي المقدمة منها وصول مرسي إلى كرسي الرئاسة، واستقلالية قراراته عن مؤسسات النظام السابق.
لذا يتمسك الطرفان بقوانين الهدنة، وهي هدنة هشة تقوم على إبراز العضلات، دون تجاوز ذلك إلى استنفار القوى الذي يصل إلى درجة استفزاز الآخر، أو إرغامه على الدخول في أي شكل من أشكال المواجهة. هذه الهدنة الهشة المشوبة بالحذر والتيقظ مصدرها اقتناع الطرفين بتوازن القوى بينهما، وعدم رجحان كفة دون أخرى، لصالح هذا الطرف أو ذاك، ومن ثم فهي غير قادرة على الصمود أمام أية عوامل، وهي كثيرة، من شأنها إحداث تغيير على موازين القوى تلك، سواء بفضل عوامل داخلية، أو عناصر ترد من الخارج.
ولهذا كله، فليس هناك ما يمنع من انفراط عقد هذه الهدنة الهشة، بعد شهر عسل قصير، لا يبدو في الأفق ما يشير إلى إمكانية علاج هشاشتها، أو إطالة عمر شهر عسلها.