لقد حكم المراجعة الأمريكية تجاه الإسلاميين -خصوصاً في العالم العربي- عدة عوامل موضوعية، منها على وجه الخصوص:

أولاً: أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي كانت “مفاجأة” للأمريكان، سريعاً ما تمت قراءتها على نحو مؤثر في الفكر السياسي الأمريكي في اتجاه تغير في فهم تفاصيل الحياة السياسية في العالم الإسلامي ومسؤولية القوى الغربية الأخلاقية والتاريخية في ما وصلت إليه هذه الحياة من أزمات، يدفع الغرب ذاته ثمنها من”أمنه الداخلي” وتآكل قدرته على حماية مصالحه في هذا العالم الفسيح. صحيح أن طريقة الفهم اختلفت وتباينت بين عدة أطراف مؤثرة ومتباينة في ردود أفعالها، حيث استغل بعضها تلك الأحداث في تزييف الحقائق وفي التحريض على الدول الإسلامية، باعتبار أن الكراهية والتطرف يتحمل مسؤوليتها المسلمون فقط، على أساس أن “كراهية” المسلمين للغرب ترجع -كما يقول برنارد لويس- إلى هزائمهم المتلاحقة أمام المسيحية الغربية، وهي الرؤية التي يتبناها على وجه الإجمال المحافظون الجدد وسعي الرئيس السابق جورج دبليو بوش لترجمتها من خلال الحملات العسكرية على أفغانستان والعراق ومن خلال منطق التبشير المسيحي مترجماً بذلك توجهات تيار سياسي ديني متطرف، معروف بميله الشديد إلى تبني الرؤية المسيحية الصهيونية في تفسير حركة التاريخ واستشراف محطاته المستقبلية. ثانياً: نجاح النموذج التركي الذي شجع الأمريكان على مد اليد نحو الإسلاميين، حيث لم يؤد وصول الإسلاميين إلى الحكم في تركيا إلى انقلاب في السياسة التركية، بل حافظوا بشكل واضح على المصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة منذ وصولهم إلى الحكم سواء على الصعيد العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، بالرغم من موقف هؤلاء الإسلاميين الأتراك قد كان موقفهم متقدّماً في العديد من المواقف والقضايا (مثل قضية العدوان على غزة والموقف من إسرائيل..) أنّ الفرق واضح جدّاً. وقد مالت القراءة الأمريكية للتجربة التركية الجديدة على إعطاء تركيا دوراً ريادياً في ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير لاتباع نموذجهم الإسلامي في المنطقة.

ثالثاً: التجربة الأمريكية في العراق والتي جعلت الإدارات الأمريكية تنظر إلى تيارات الإسلام السياسي الصاعدة في بلدان الربيع العربي بالدرجة الأولى على أنها بدائل الأمر الواقع التي يمكن تدجينها بالسياسة وبالاقتصاد لتكون في حالة وفاق مع الغرب (وفي حالة سلام مع إسرائيل على نمط الصيغة التركية مثلاً) بما يساعد على تغيير الصورة النمطية لدور الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص في دعم الاستبداد في البلدان العربية من ناحية، وبما يساعد على إعادة رسم صورة هذه المنطقة في إطار الرؤية التدجينية التي تجعل منها فضاء أقل قلاقل، وأقل تكلفة من حيث إدارته، وبما يساعد الحكام الجدد على تجاوز المشكلات البنيوية التي تعاني منها الحركات الإسلامية التي تواجه اليوم الحكم بكل أعبائه وصعوباته وتعقيداته، وتجعل الكثيرين يشكون في القدرة على القيام بدور حاسم في تأطير مجتمعات أريد لها أن تركب قطار الحداثة، الذي يناقض في جوهره الخطاب التقليدي للحركات الإسلامية.

نستطيع أن نتبين من خلال ما تقدم أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تستهدف من الحوار مع الإسلاميين الذين يوصفون بالمعتدلين بين أوساط الإخوان والمتصوفة والشيعة العمل على استخدام هؤلاء الإسلاميين لضرب الأصوليين والحد من تأثيرهم، بما يمنح الإسلام الليبرالي الجديد الواصل إلى السلطة فرصة لبناء علاقة سوية مع الغرب، وهذا من شأنه أن يوسّع خيارات الولايات المتحدة في التعامل مع العالم الإسلامي واللعب على التناقضات، دون أن ننسى فرصة ابتزازها للأصدقاء العرب التقليديين بالتلويح بورقة الإسلاميين المعتدلين الجدد كبديل لهم لتقديم المزيد من التنازلات.

^ همس..

يقول بريجنسكي: “نظراً لهشاشة المؤسسات السياسية العلمانية في العالم الإسلامي، وضعف المجتمع المدني فيها، واختناق الإبداع الفكري، يواجه معظم العالم الإسلامي ركوداً اجتماعياً واسعاً تستغله الحركات الإسلامية لملء الفراغ وسد العجز”.