لنستذكر التاريخ القريب مجدداً، وتحديداً ما ارتبط بـ “الحوار” كمفهوم وممارسة. في بدايات الأزمة تدخل سمو ولي العهد لحل الوضع بأسلوب عقلاني، داعياً المعارضة لدخول حوار يبعد الشارع عن التأزيم ويجنبه دوامة العنف. يومها “تفننت” المعارضة بقيادة الوفاق في وضع الشروط، بدأت بأربعة وأوصلتها لاثني عشر شرطاً. لم يكونوا يومها يكترثون لصبر الدولة وانتظارها إياهم ليبدأوا الحوار، بل اعتبروا انسحاب الجيش عملية فيها تراجع من الدولة تمنحهم نقطة تفوق عليها، هم لم يكونوا يريدون حواراً أصلاً باعتبار أن “سقوط البحرين” مسألة وقت لا أكثر. انتظر ولي العهد طويلاً من أجل دخولهم في الحوار فلم يكن هناك أي تجاوب، بل على العكس كان التطاول على رموز الدولة ومن ضمنهم ولي العهد نفسه يتزايد في الدوار، وشعار إسقاط النظام يتردد، ومجسمات التمثيل بالقادة وضعت في كل مكان، وكل ذلك تحت مرأى ومسمع من الوفاق التي لم تنبس بحرف استنكار يومها، حتى نصدقها اليوم بأنها لم “تبارك” عملية التسقيط. حينما انتهى الصبر، مقابل رفض الحوار إلا بشروط الانقلابيين، وتحولت المسألة إلى عملية استهداف لبقية مكونات المجتمع، وسد للطرقات واحتلال للمباني، وتمددت هذه العمليات لتخرج عن نطاق الدوار، أعلنت حالة السلامة الوطنية لإنقاذ البلد ولحماية بقية المواطنين والمقيمين. استعادت الدولة زمام الأمور بعد أسابيع من الصبر والانتظار، إثر ذلك تحول الانقلابيون الباحثون عن إعادة إحياء فرصة الحوار التي منحت لهم. ذهبوا للكويت يطلبون الوساطة، حاولوا الوصول لسمو ولي العهد، فعلوا كل شيء، لكن حينها كان الأوان قد فات، إذ جاءت دعوة الحوار الوطني لتشمل جميع مكونات المجتمع بلا استثناء، فالبحرين ليست ملكاً لطيف، وليست حكراً على فئة تضع الشروط على هواها لتحدد مصير بلد بأكمله بأطيافه المتباينة. أعضاء الوفاق الذين شاركوا في الحوار ثم انسحبوا منه، قال أحدهم في استراحة بين إحدى الجلسات بأنهم لا يريدون هذا الحوار بل يريدون ما دعا له سمو ولي العهد. يومها رد عليهم أحدهم وقال بأن ولي العهد انتظرهم لأسابيع طويلة لكنهم هم من تعنت ورفض الفرصة التي لو قبلوها حينها لتحصلوا على مكاسب عديدة. وهنا نحمد الله أنهم لم يقبلوها، لأن في قلوبهم شيئاً مختلفاً تماماً عن حوار ومكاسب في ظل النظام الحاكم الحالي، في قلوبهم كانت تختمر فكرة الاستيلاء على البلاد وعلى نظامها وفرض قانونهم الخاص على الجميع. اليوم تقول الوفاق بأنها تقبل بحوار دون شروط بل هي مستعدة لبدئه، وقبلها بأسابيع قال أحد عناصرها في تصريحات له أنهم ليسوا الطرف المعطل للحوار المطلوب انعقاده باعتبار أنهم ليسوا واضعي الشروط، بل هناك فئات هي التي تريد تعطيله! بكل بساطة تغيرت مواقفهم وتغيرت أقوالهم، وهي مسألة ليست بغريبة عليهم أبداً، مثلما أنكروا شعاراتهم التسقيطية وصورهم المسيئة للرموز وتطاولهم على قادة البلاد، هم يقدمون أنفسهم اليوم على أنهم “المستميتون” من أجل الحوار وأن غيرهم من يعطله، متناسين بأنهم هم من حاول إفشال الحوار الوطني عبر انسحابهم حينما صدموا بوجود عناصر أخرى ومكونات أخرى لها حق في الحديث بشأن مقدرات هذا الوطن. هذا السرد حتى لا ننسى التاريخ، وحتى لا ننسى ما فعلوه حينما يغيرون كلامهم الآن وينصبون أنفسهم دعاة حوار بلا شروط، والأهم حتى لا تنسى الدولة. حتى لو قالوا ما قالوا، حتى لو سعوا لتغيير الصورة الحقيقية، يبقى الفيصل في أي حوار قادم هو مدى تقبلهم للأطراف الأخرى، خاصة وأن أي حوار قادم مرفوض رفضاً تاماً من قبل قوى الشارع الأخرى من المخلصين لهذا البلد إن قدر لهذا الحوار أن يأتي على حسابهم وأن يقام بدونهم، أو أن يعقد وكأنه تلبية لرغبة من هم السبب في إشعال الشرارة وتحويلها لنار تحرق البحرين طوال شهور وحتى الآن. هل سيتقبلون آراء تختلف مع آرائهم؟! هل سيتقبلون سماع أصوات أطياف أخرى تقول لهم لا يمكن القبول بتعطيل القانون والتغاضي عن الجرائم التي ارتكبت؟! هل سيقبلون برأي الأغلبية حينما يتحدثون عن شكل الحكومة وعن وضع الدوائر الانتخابية بما يرونه هم لا كما تراه الوفاق وأتباعها؟! مشكلتهم التي تواجههم في أي حوارات تعقد تكمن في “سقف مطالبهم”، تتمثل في رفضهم المتأصل لقبول الرأي الآخر، في رغبتهم العارمة بالاستحواذ على كل شيء دون أي تنازل، ودون القبول بأن هذه البلد ليست ملكاً خاصاً لهم وحدهم. لو سلمنا بإقامة الحوار، وخلصت أغلب نتائجه، أو على الأقل نصفها لعكس ما تشتهيه الوفاق وتقبل به، هل ستعترف بمخرجات الحوار أم ستتنصل منه مثلما فعلت في الحوار الوطني؟! هل يمكنها أن تقبل بنزول سقف مطالبها “المرتفع جداً” باعتبار أن الأغلبية لا تتوافق معهم فيه؟! هل ستقبل بالنتائج وتسلم بها، أم ستلجأ لتحشيد الشارع مرة أخرى وتهتف فيهم “صمود” و«لا تنازل” و«عائدون”؟! لا تقولوا كلاماً أنتم غير قادرين على الالتزام به. من يقول نقبل بحوار دون شروط، عليه أن يعلن مسبقاً بأنه يقبل بنتائجه، وأنه يقبل بما يتوافق عليه الأغلبية. أما إن كانت مسألة لكسب الوقت تمهيدا ًلأمور أخرى، أو عملية لمد تواصل جديد مع الدولة وبقية المكونات للقول بأنه لازال لكم وزن وتأثير “خارج الشارع” وتحديداً على طاولات النقاش مثلما كان في السابق، فإن إقامة حوار معكم لن يكون سوى “حوار طرشان”، لأن الشروط ستظهر من جديد، ولأن ازدراء الأطراف الأخرى سيتكرر، ولأن اتهام الدولة بالتنصل سيظل أسطوانة مشروخة تشغلونها على الدوام. ليس لأنكم لا تريدون الحوار كمفهوم حوار، بل لأنه أهدافكم أكبر من أية نتائج يفضي لها أي حوار، كثير منها لن يكون متوافقاً مع ما تريدون لوجود أطراف أخرى، لأن أهدافكم غير قائمة أصلاً على مبدأ المشاركة في الدولة، بل هي أهداف “انقلابية” تريد تغيير النظام والاستيلاء على الحكم، وهي الحقيقة التي يعرفها الجميع وأنتم أولهم، وهي الحقيقة التي ستظل باقية ومرتبطة بأذهان جميع البحرينيين المخلصين كلما أعادوا الشريط وتذكروا ما فعلتموه بوطنهم طوال الشهور الماضية. مشكلتكم في “سقف مطالبكم”، ومشكلة الناس معكم أنها لن تصدق “كاذباً” طعن البحرين بخناجره حتى نزفت، ثم حينما دارت الدائرة عليه حمل “الورود” وقال بأنه يريد “إصلاح النظام” لا “إسقاطه” ويقبل بحوار من غير شروط بعد أن تفنن في وضع الشروط التعجيزية ليعطله.