خامس تلك التساؤلات هو؛ ما هو السر الكامن وراء التدخل المباشر المعلن الذي أقدمت عليه الدول الكبرى من أمثال دول حلف “الناتو”، والذي تعمدت عواصم تلك الدول في عدم إخفائه، بل وحتى إبرازه في مراحل معينة وفي بلدان معينة، كما كان أكثرها وضوحاً في ليبيا، ويعيد نفسه اليوم بشكل أقوى سفوراً في سوريا؟ ما الذي يجعل الدول الكبرى تتعمد، بل وتصر على أن تخلع قناع الحياء وتخرج على العلن مدججة بأسلحتها المتطورة كي تحسم الصراع في ليبيا، وتستعين بأصباغ المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، كي تعيد الكرة في سوريا.
ويخرج من رحم هذا التساؤل، تساؤل آخر في نطاق بحث ردة فعل الدول الكبرى لا يقل عنه استراتيجية، ويحتاج إلى الكثيرمن التمعن هو؛ ما هي العوامل التي وفرت الظروف الملائمة للإجماع على شكل ومستوى وطبيعة وحدود ذلك التدخل في ليبيا، وغيبت تلك الظروف عن الساحة السورية، التي نشاهد تناقضات حادة أدت إلى مواقف متنافرة، وسياسات متضاربة بين معسكر دولي غربي تقوده الولايات المتحدة، يناصر القوى المعارضة، ويمدها بالدعم العسكري والسياسي على حد سواء، وآخر شرقي يضم روسيا والصين يدس أنفه هو الآخر في الشؤون الداخلية السورية ويقف في جبهة بشار الأسد كي يمدها بالسلاح والدعم السياسي أيضاً؟
سادس هذه التساؤلات مستل من التساؤل الخامس يقول؛ لماذا رأينا بعض أطراف، كي لا نعمم فنظلم البعض، قوى المعارضة التي قادت حركة “الربيع العربي” لا تتردد في الاستعانة بتلك الدول أو بعض المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة التي تمتلك تلك الدول تأثيراً قوياً على آليات صنع القرار فيها، بما في ذلك إرسال قواتها الخاصة لتغيير موازين القوى لصالح الطرف الأكثر قرباً لها؟ لا شك أن هناك فرقاً شاسعاً بين أن تفرض القوى الكبرى نفسها وتزج بقواه في تلك الجبهة وبين أن تبادر القوى المحلية المعارضة كي تناشد، وفي حالت معين تستجدي تلك الدول للتدخل المباشر لصالحها، ومن ثم تضفي شيئاً من الشرعية التي تبحث عنها تلك الدول على ذلك التدخل.
يحدث ذلك علناً، وليس في دهاليز تلك الدول أو المنظمات، بل وجدنا الأطراف المعارضة لا تتردد في أن تكرر رفع أصواتها المستغيثة، داعية القوى الخارجية تلك، وبمحض إرادتها، لمساعدتها على حسم الصراع، أو اختزال زمنه. ليس القصد هنا تجريد قيادة “الربيع العربي” من حقها في نسج التحالفات الدولية الضرورية التي تحتاجها في تغليب موازين القوى لصالحها، لكن هناك بون شاسع، بين هذا المستوى من التحالف، وذلك الذي شهدناه في ساحات عربية مثل ليبيا، حيث مارست القوى الخارجية دوراً رئيساً في حسم الصراع، ويتكرر المشهد ذاته، في ثوب آخر، اليوم في سوريا. ما ينبغي اللفت له هنا، أن لكل مستوى من مستويات التدخل الدولي ثمناً، لا بد وأن تدفعه القوى المحلية، مهما تأجل زمن تسديده، وفي حالات كثيرة يكون ذلك السعر مكلفاً على المستوى الاقتصادي، وباهظاً على الصعيد السياسي.
سابع هذه التساؤلات هو، لماذا سقطت ثمار “الربيع العربي”، في أحضان قوى سياسية محددة، هي الإسلام السياسي، دون سواه من القوى السياسية الأخرى، وعلى وجه التحديد، القوى العلمانية، التي يفترض أن تكون لها جذور عميقة في المنطقة العربية، يعود البعض منها إلى عشرينات القرن الماضي؟ فمن المعروف أن إسهامات الأحزاب السياسية غير المنتمية لتيارات الإسلامي السياسي المختلفة من قوميين وشيوعيين، كان لها حضورها المميز، وخاصة خلال النصف الثاني من القرن الماضي، لكن ورغم كل ذلك، وجدناها خلال مسيرة ذلك الربيع بعيدة، وفي حالات معينة مبعدة عن المواقع القيادية في حركة “الربيع العربي” الجماهيرية. لا ينفي هذه الحالة، بروز بعض الحالات الاستثنائية، ولفترات قصيرة، كما شاهدناها في مصر.
تنبع أهمية مثل هذا التساؤل من مستتبعاته المستقبلية على خارطة العمل السياسي في البلد المعني. فمن الطبيعي أن جني ثمار النضال تحدد درجة مشاركة القوى، كل حسب حصته. وبالتالي، فللاستبعاد، أو الابتعاد انعكسات مستقبلية، قد لا تبدو اليوم واضحة للعيان، لكنها قادمة، ولا يمكن إخفاؤها أو تجاهل احتمال وقوعها. وهذه مسألة نستقيها من دروس تاريخ المنطقة، ولربما شكلت مسارات الانقلابات العسكرية التي عرفتها المنطقة العربية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، واستفراد الطواقم العسكرية الحكم بعد إزاحة الممسكين به، وإبعادها للقوى السياسية الأخرى عن مشاركتها غير التجميلية في السلطة، تجارب غنية، تحولت إلى ما يشبه المدارس الناضجة في العمل السياسي، يمكن أن يتلقى على أيديها دروساً في غاية الأهمية في هذا الاتجاه.
ثامن هذه التساؤلات وآخرها، وليس أخيرها، هو ما هو ذلك العامل الخفي المندس في جسد القوى المعارضة التي مارست الدور الأساسي في أحداث “الربيع العربي” وتطوراته، الذي حال دون قدرتها على أن توحد قواها وترص صفوفها، سواء خلال معارك ذلك الربيع، كما هو الحال في سوريا واليمن، أو حتى بعد حسم الصراع، كما نشاهده اليوم في مصر وتونس؟ هذا التساؤل ربما يقود إلى تساؤل أكثر شمولية منه، يتعلق بواقع القوى السياسية العربية، بشكل عام، التي تشكو دوماً من مرض سياسي عضال، هو التشرذم المستمر المنغرس في جسدها والذي يسيطر على أذهانها، ومن ثم سلوكها. فحالات نادرة، ومؤقتة تلك التي وجدنا فيها القوى المعارضة العربية قادرة على تشكيل جبهة نضالية متماسكة، تؤدي مهام المرحلة الوطنية التي تخوض معاركها، فقصص الانشقاقات، حتى داخل الحزب الواحد ذاته، تفوق في عددها وحجمها عدد الاندماجات، أو حتى التحالفات التي عرفتها القوى السياسية، بما فيها تلك التي وصلت إلى سدة الحكم، خلال النصف القرن المنصرم. حتى الساحة الفلسطينية، والتي يفترض أن تتجسد فيها أرقى أشكال العمل الجبهوي، سواء في مرحلة الشتات، أو بعد العودة للوطن، وتشكيل السلطة الوطنية، وجدناه هي الأخرى تعاني من “سوسة” هذا المرض، بل ربما هي المثال “الأفضل” الذي يعبر عن نزعة الانشقاق التي نتحدث عنها.
مثل هذه التساؤلات، ولا نستبعد أن تكون هناك أخرى غيرها لا تقل استرايجية عنها، نرى أنها جديرة بالاهتمام، كي تتحول إلى موضوعات تناقشها ورش عمل متخصصة، بل ربما تتصدى لتشريح جثتها مؤسسات أكاديمية، تضع على عاتقها جميعاً، مهمة إشباع هذه التساؤلات نقاشاً، تخرج من خلاله بالإجابات الصحيحة المستقاة من بحوث ميدانية علمية، سواء عند جمع المعلومات، أو في مرحلة معالجتها، أو في نهاية الرحل لحظة تمحيص الخلاصات، واستخراج الاستنتاجات