كلما عوقبت إيران من قبل المجتمع الدولي تراكمت على الطاولة الخليجية كؤوس مترعة بالقلق لا نملك إلا تجرعها، لكن حظر شراء النفط الإيراني من قبل الاتحاد الأوروبي والتوقف الأمريكي عن التعامل مع البنك المركزي هناك منذ أول يوليو 2012؛ يعد العقاب الأكبر منذ الثورة 1979. حيث يعاني الاقتصاد الإيراني من الانكماش في نفس وقت انخفاض ما تضخه لسوق النفط لنحو 2.5 مليون برميل من إجمالي 4 ملايين برميل يومياً. فماذا أعدت طهران من خطط بديلة لتجاوز أزمتها الراهنة، وماهي التداعيات المحتملة لفشل هذه الخطط على أمن الخليج العربي؟
لقد ذهب هذيان العظمة بالرئيس نجاد حد اعتبار أن “العقوبات فرصة للعمل على التقليل من اعتماد ميزانية البلاد على العائدات النفطية التي تشكل أقل من 10% لتجريد العدو من أداة النفط كسلاح لممارسة الضغط على إيران”. لكن ذلك لم يمنع خريج بازار طهران ورئيس بلديتها السابق من اتخاذ إجراءات كشفتها صحيفتي “اعتماد” و«ابتكار” الإيرانية وشملت:
1- تخزين قسم من نفطها الخام على متن ناقلاتها النفطية.
2- حذف الدولار واليورو من تبادلات إيران النفطية.
3- تزويد السفن الدولية الحاملة للنفط الإيراني ببطاقات ائتمان.
4- تهريب مبيعاتها من النفط بعيداً عن الرقابة الدولية.
لقد كان الأجدى لو تم إنشاء وزارة للعقوبات في الحكومة الإيرانية، أو ربما حكومة عقوبات كاملة بحكم أن كل وزارات الدولة تتأثر بالعقوبات بشكل دائم منذ 33عاماً. بدل تعبير طهران عن وجهة نظرها حيال كل جولة عقوبات بتصريحات برلمانية للتكسب السياسي، أو تهديدات جنرال جوفاء ومقاطع مصورة لمناورات عسكرية غير واضحة الزمان والمكان والمحتوى. لكن حتى نجاح أحد النهجين مشكوك فيه بعد مضي ثلاثة أشهر من العقوبات على أبعد تقدير، حيث ستجد طهران نفسها في مأزق لن يخرجها منه إلا حزمة من الإجراءات الحادة التي قد يطال دول الخليج العربي بعض من تبعاتها ومنها:
1- سجلت أجهزة رصد عدة مقدم زلزال سخط شعبي لشوارع طهران نتيجة الإخفاقات المتتالية للحكومة، فالإمكانيات المادية المتوفرة عبر الخطة البديلة لن تضعف القرار الدولي. وحالة التذمر في المجتمع الذي يرفض أن يدفع فاتورة سياسات قادته المتشددة وصلت مستويات مرتفعة كان آخرها أزمة توفر الدجاج في رمضان. وبما أن قيام الملالي بتسوية على حساب مبادئهم الثورية أمر مستبعد؛ فلن يبقى من مخرج مفضل وممارس من قبلهم إلا بتوحيد الشعب خلفهم ضد خطر مشترك بتصدير الأزمة خارجياً والاشتباك مع دول الخليج في جولة جديدة من مفجرات الصراع.
2- لمراوغة العقوبات المفروضة عليها ولتكوين احتياط نقدي من العملات الأجنبية سينشط التهريب الإيراني المدعوم من الدولة لموانئ الخليج في اتجاهين، فمن هناك ستقوم ببيع جزء من نفطها الخام المحظور عن طريق السوق السوداء للبواخر الأجنبية المشبوهة المنتظرة في موانئنا. ومن الخليج سيتم تهريب المشتقات النفطية المدعومة كالتي أثيرت حولها ضجة في الكويت. إضافة لمجالات تحايل أخرى في الخليج كالتأمين على الشحن أو خطوط التحويلات والتعاملات البنكية والعملة الصعبة وغسيل الأموال وتهريب الذهب. أو حتى سيناريو إيران-غيت. وبدل أن تعاني طهران من العزلة يوقعنا جشع البعض بالخليج في العقوبات الدولية وتصبح العواصم الخليجية متهمة بخرق حظر العقوبات التي تمت في جزء منها لصالحنا.
3- للنهوض بقطاعات بديلة للقطاع النفطي، ستزداد وتيرة الإعلان عن الأسلحة الجديدة وأن صناعة السلاح وتصديره قد أصبحت بديلة للنفط. وسيرافق ذلك بالضرورة تعكير لأمن الخليج نتيجة زيادة المناورات العسكرية لإظهار قواتها المسلحة محترمة ومرهوبة الجانب بالسلاح الذي تروج له.
4- لقد روجت طهران بقوة لقرار منع حركة ناقلات النفط في مضيق هرمز للدول التي تفرض عليها عقوبات، وجعلت خط رجعتها بإقراره من المرشد الأعلى. ونرى أن التهديد بإغلاق المضيق سيتجدد في مطلع العام القادم بصورة وذرائع أقوى حين يكون الفائض النفطي الذي وفرته حكومة أوباما للنجاح في انتخابات نوفمبر 2012 قد نفذ. لأن ثلث تجارة النفط مرت في العام الماضي عبر مضيق هرمز، وحجم الصادرات النفطية الإيرانية للدول التي طبقت الحظر يبلغ 18%، وهي نسبة يمكن تعويضها من خلال رفع أسعار النفط الخام الذي سيرتفع عالمياً بين 20 و30% حين تقوم إيران بالتهديد بالإغلاق. لكن التعويض بهذه الطريقة ستأكله التخفيضات التي أعلنت إيران أنها ستقدمها لبعض مشتري نفطها، مما يدخل سوق النفط وهو مصدر دخلنا الوحيد لتقلبات غير حميدة لاستمرار طهران بالتهديد كلما أرادت رفع الأسعار.
5- ستحاول طهران فك الحصار النفطي عبر العراق الذي يمثل الحلقة الأضعف في محيطها. يشجعها تصريح وزير نفطه عبدالكريم اللعيبى على هامش توقيع اتفاقية غاز بين إيران والعراق وسوريا قبل شهر بأن بغداد تتبنى سياسات مستقلة وتتجاهل العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على إيران. ونظراً للشراكة الاستراتيجية بين البلدين فقد تقوم بغداد ببيع جزء من نفطها لصالح طهران مماثلاً لما كنا نقوم به حين بعنا نفطنا في الثمانينات لصالح الطاغية صدام.
6- إغراق السوق النفطية كان ذريعة الحرب التي استخدمها صدام لغزو الكويت 1990م، والتي ستجدها طهران صالحة لخلق الأزمات مع دول الخليج حليفة الغرب. فقد شرعت في اتهام السعودية والكويت والإمارات بتجاوز حصصها المحددة في منظمة الدول المصدرة للنفط لخفض الأسعار. وقال المندوب الإيراني في “أوبك” إن بلاده احتجت رسمياً لدى المنظمة. حيث يرى أنه ليس صحيحاً أن تعوض دولتان أو ثلاث حصة السوق المحددة لبلد فرضت عليه عقوبات. معطياً بلاده الذريعة بالتحرك الذي تراه طالما أن بلدان منظمة أوبك تتحرك بعضها ضد بعض.
7- سيكون للعقوبات النفطية تأثير مالي أوسع على شبكة تحالفات طهران الإقليمية وستشمل آثارُها حزب الله ونظام الأسد، حيث ستغدو طهران عاجزة عن تقديم الدعم لحليفيها. وقد يدفع الإفلاس الاقتصاد الإيراني الأطراف الموالية لها للتحرك، فقد اقترحت صحيفة الحرس الثوري “توريط أمريكا والغرب في المزيد من المشاكل الإقليمية”، فهل يعني ذلك مهاجمة المصالح الغربية إرهابياً في العواصم الخليجية أو مهاجمة الأنابيب الخليجية تخريبياً لإشاعة الفوضى في المنطقة؟
لا شك أن سجل إيران المثخن بالعقوبات قد خلق لدى صانع القرار السياسي هناك خبرة متراكمة في إدارة العقوبات، لكنها ليست بالتأكيد خبرة في إدارة الأزمات. فهدف طهران أن تصبح قوة إقليمية فاعلة في منطقة الشرق الأوسط أدخلها في أزمة بعد الأخرى. وكم نتمنى لو فتحت المجال لوزير الخارجية التركي داود أوغلو لإلقاء محاضرات في نظرية “تصفير المشاكل” ليكون خطّ الأمان الاستراتيجي لطهران بدل الطموح النووي. ورغم أن الإجراءات الإيرانية الراهنة لا تتعدى التهديدات وعمليات التحايل والخطابات العنيفة والمناورات بأسلحة غير مؤكدة القدرات، ألا أن ذلك يحول الخليج إلى صندوق بارود قد تؤدي شرارة غير مقصودة لانفجاره. ومن المرجح أن تستمر المواجهة في الخليج بين طهران والغرب حتى يتراجع أحد الطرفين، لأنه يتعين أن يحدث شيء ما في نهاية الأمر. ولن يوقف عقوبات الغرب إلا إعلان طهران وقف نشاطها النووي أو الإعلان عن تفجير قنبلتها النووية الأولى، مما يعني نقل الصراع إلى طاولة مفاوضات مختلفة، وعلى تلك الطاولة ستتجرع دول الخليج كؤوس أخرى أكثر مرارة.
^ المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج