يُقال إن السياسة فن المُمْكِنْ، باعتبار أن السياسة فعل متميز لا يستطيع القيام به كل الناس، لأن رجل السياسة الحقيقي يمارسه في ضوء علاقة الممكن والمستحيل بالظروف الوقتية والواقعية أو المناخ السائد، وفي إطار يجمع بين الواقع وقدرٍ من الخيال يساعد على تغيير الواقع في إطارٍ من الممكن، وهنا يحدث التزاوج القائم بين الحقائق الثابتة والأحلام القابلة للتطبيق.
وهناك ثلاثة أنواع من السياسة: فن المُمكن في الزمن المُمكن، وفن المستحيل في الزمن المستحيل، وفن المُمكن في الزمن المستحيل أو فن المستحيل في الزمن المُمكن. إن السياسة التي تتعامل مع الواقع، وتدور في إطاره، ولا تخرج عنه، هي سياسة فن الممكن في الزمن الممكن، وهي سياسة مصنوعة وليست صانعة، أي مخلوقة وليست مبدِعة، كما إنها تخلو من الصراع مع عصرها، إذ تنشد الاستقرار والاستمرار، وتتفادى الصراع، وتميل للتنازلات والحلول الوسطى؛ وأبسط مثال على ذلك هي السياسة التقليدية للدول العربية تجاه إسرائيل باعتبارها قوةً نوويةً لا يمكن قهرها، وبالتالي من الأجدى التعايش معها، حتى لو تم ذلك على حساب الحقوق التاريخية.
أما السياسة التي تصبو إلى تغيير الوضع القائم وتدميره، ولكن دون أن تستوعب ثقافة عصرها، وتأخذ بالحسبان القوانين الموضوعية التي تحكم الوضع القائم، فإن مآلها الفشل، وهي سياسة فن المستحيل في الزمن المستحيل، وخير مثال عليها سياسة البيريسترويكا التي انتهجها الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف، والتي ساهمت تالياً في تفكّك الاتحاد السوفيتي وتدميره.
في المقابل، فإن السياسة التي تنشد التغيير عبر تدمير الوضع القائم، ولكن مع إدراك ماهيّة الممكن في الوضع أو الزمان والمناخ، فهي فن المُمكن في الزمن المستحيل، وهذه السياسة تنجح في التغيير وتخلق واقعاً جديداً، وثقافةً جديدةً، وتخرج من الصراع منتصرةً، ومثال ذلك سياسة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية التي حولّت هذه البلاد إلى قوة صناعية جبارة في زمن قياسي. إن هذه السياسة بالذات هي التي دشنت عصر التحوّلات التاريخية، وظهور أقطاب عالمية منافسة للولايات المتحدة كأوروبا والصين وروسيا لاحقاً، ويبدو أن مستقبل الشعوب سيتحدّد بمدى توافق هذه المراكز على اتباع سياسةٍ موحدةٍ تنشر السلام والأمن في ربوع العالم!