سيطرت صفة “الربيع العربي” على معظم المعالجات التي تناولت الأحداث التي عصفت بالعديد من العواصم العربية على امتداد العامين الماضيين. وأضحت تلك الصفة لصيقة بالتحليلات التي حاولت قراءة ما تعنيه تلك الأحداث، وما حملته من تحولات يمكن أن تنجم عن تفاعلها، أو تداعيات تتمخض عنها. وسادت نبرة التفاؤل على معظم الاستقراءات التي اجتهدت كي تحدد مسارات تلك الأحداث وآفاقها المحتملة، مستخدمة نوعاً من الإسقاطات المقارنة بينها وتلك التي عرفتها مدينة براغ في نهوضها ضد الاستعمار السوفيتي في مطلع النصف الثاني من القرن الماضي.

خلاصة كل ذلك، كان تصنيف ما جرى على أنه نهوض عربي شامل لإحداث تغيير حان أوانه، واستجابة موضوعية لاستحقاق لا يمكن تأجيله. في هذا السياق، جرى تعرية الأنظمة القائمة ورصد الأخطاء التي ارتكبتها، وبالقدر ذاته، كان هناك عزوف مقصود عند البعض، وغير واع عند البعض الآخر، بكل ما كانت تعاني منه القوى العربية المعارضة (بكسر الراء) التي لم تتوقف محاولاتها عن تجيير تلك الأحداث لتحقيق مصالحها الحزبية الضيقة، وبعضها الآخر الذي لم يتردد في تسلق، أسيجة ذلك الربيع العربي، وجني ثماره لصالح فئة قليلة متربصة بما يمكن أن تؤول إليه نهايات تلك الأحداث، كي تجيرها، بوعي كامل وإصرار واضح، لمصالحها الذاتية البعيدة كل البعد عن الأسباب التي قادت لمثل ذلك النهوض العربي، والمتضاربة مع مصالح القوى الحقيقية التي فجرت أحداث ذلك الربيع.

ليس هناك من بوسعه إنكار حاجة المنطقة العربية إلى تغيير نوعي، يعيد الأمور إلى نصابها، ويضع المجتمعات العربية، أسوة بأخرى غيرها تسودها أوضاع مشابهة، على الطريق الصحيح. كما ليس هناك، أيضاً، من يستطيع أن ينفي حقيقة أن مثل هذا التغيير إنما هو حصيلة تفاعلات عوامل داخلية محضة، مع أخرى دولية، حتمت محصلتها النهائية المنطقية أن تهيئ المنطقة العربية نفسها لرياح تغيير موضوعي، لا يستطيع أحد أن يوصد الأبواب في وجهه.

لكن ما غاب عن هذه الصورة، وما ينبغي أن نلتفت نحوه كي نكمل معالمها الحقيقية غير المشوهة، هو أن التغيير لا ينبغي أن يقف عند حدود الأنظمة الحاكمة فحسب، بل لابد أن يمتد، كي يكون شاملاً، إلى صلب المعارضة العربية، فهي الأخرى تعاني من وهن مزمن، تجاهد كي تخفي معالمه، وتصر، وهي في ذلك تسير في اتجاه معاكس لحركة التاريخ، على إنكاره. والحديث هنا لا يتناول القوى الشابة التي فجرت الأحداث، وقادت مسيرتها في مراحلها الجنينية، بل كان ذلك في حقيقة الأمر، هو التعبير الصادق عن الاستجابة العفوية الصحيحة لذلك التغيير الذي كان يطرق بوابات المنطقة العربية، ويلح على دخولها.

وقبل تناول حاجة المعارضة العربية إلى “ربيع” من نوع آخر، يكشف مواطن الخلل فيها، نلفت إلى أن معظم -إن لم يكن جميع- البلدان العربية التي هبت عليها رياح ذلك الربيع، إنما تمسك بمقاليد الأمور فيها، قوى جاءت من رحم المعارضات العربية، التي وصلت إلى السلطة فيها بعد أن أزاحت أنظمة نادت تلك المعارضات بضرورة إسقاطها، كي تقيم، كما كانت تنادي وتدعي، على أنقاضها أنظمة جديدة تنعم شعوبها بخيرات “الديمقراطية والحرية والعدالة”، وفوقها جميعاً “الوحدة العربية”.

جردة سريعة تبدأ بالجزائر، وتعرج على ليبيا، وتقف بعض الوقت عند مصر، قبل أن تنهي جولتها عند اليمن، دون إغفال سوريا والعراق، ستصدم بحقيقة مفادها أن من هم في السلطات تلك الممسكة بزمام الأمور اليوم، إنما كانوا معارضات الأمس، لكنهم ما إن وصلوا إلى سدة الحكم، حتى باشروا في إحكام قبضتهم على مفاصله، ووضعوا صمامات الأمان التي تضمن بقاءهم السرمدي فيه، وتحول دون وصول غيرهم من القوى المعارضة الأخرى إليه، دون أن يترددوا في الاستعانة بقوى داخلية كانت مرتبطة بأنظمة الحكم التي أطاحوا بها، كي يستفيدوا من تجاربها الغنية في بناء أنظمة قوية تواصل سيطرتها على شعوبها، وتمعن في مصادرة حقوق يفترض أن تكون، أي قوى المعارضة التي أصبحت حينها في السلطة، أكثر المنادين بها، والمدافعين عنها. ولم تبخل القوى العالمية التي ألصقت بنفسها زوراً صفة التقدمية من أمثال دول المنظومة السوفيتية، أن تمد تلك الأنظمة العربية، التي جاءت من صفوف المعارضة، بما تحتاجه من أغطية سياسية، وأجهزة إدارية، توفر لها الحماية الداخلية، وتضع بتصرفها التضامن الخارجي.

هذا ينطبق أيضاً على قيادات المعارضة ذاتها، بما فيها تلك التي لم تصل إلى السلطة بعد، ولم “تنعم بخيراتها”، فنادراً ما شاهدنا أميناً عاماً لإحدى القوى المعارضة العربية يترك مقعده بعد مضي دورتين أو أكثر على تبوئه ذلك المنصب، ولا يتردد هو، ولا الشلة التي تلتف حوله من سوق التبريرات، والأسباب التي تبرر “التصاقه” بكرسي ذلك المنصب، وحرمان القوى الشابة في الحزب ذاته، من استبداله هو، وغيره من القيادات التي لم يعد أحد قادر على اقتلاعها من مناصبها المتشبثة بها، سوى ملك الموت، عندما يحل وقت مغادرتها إلى الدار الآخرة، أو المرض العضال الذي يقعدها كسيحة غير قادرة على تحريك عضلاتها الذهنية والفيزيائية، على حد سواء.

مما لاشك فيه أن الأحداث التي عرفتها المنطقة العربية، تعبر في جوهرها، عن حاجة هذه المنطقة للتغيير، لكن من الخطأ الفادح، أن نحصر هذه الحاجة في صفوف القوى الحاكمة فحسب، وفي برامجها فقط. فبقدر ما تبدو الحاجة ضرورية وملحة للتغيير، بقدر ما ينبغي أن ندرك أن مثل هذا التغيير ينبغي أن يكون شاملاً، كي لا يقف عند حدود من هم في الحكم، بل يتسع نطاقه كي يصل إلى قيادات المعارضة ذاتها، التي ترفع الكثير من المطالب التي تخشى منها، فيما لو نفذت داخل صفوفها.

فاليوم أكثر من أي وقت مضى، بات على المعارضة العربية، إن هي شاءت أن تمارس دورها الطليعي، الداعي للتغيير نحو الأفضل، أن تمتلك قدراً كافياً من الشجاعة الذاتية كي تقف، وبقرار محض إرادي، أمام نفسها، وبحضور أعضائها، بل لابد أن يكون ذلك على مرأى من جماهيرها، كي تقول الحقيقة، البعيدة عن أية تبريرات واهية، فتعترف بأخطائها، وتكشف بصدق عن الكثير من الفرص التاريخية التي أضاعتها، بوعي أو بدون وعي، نظراً لقصور في الرؤية، أو تخلف في المنهج، أو لغياب الخبرة.

المنطقة العربية برمتها بحاجة إلى ربيع حقيقي، وأكثر من يحتاج لمثل هذا الربيع هي المعارضة العربية ذاتها، وما لم يحدث ذلك فليس هناك من ضمان يحول دون تكرار ما عشناه خلال النصف القرن المنصرم، عندما خرجت الجماهير العربية، على امتداد عقود ثلاثة من حياتها، هي الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، مرحبة بمن ادعى النضال من أجل التغيير، ومنخرطة في صفوفه، كي تكتشف بعد مضي نصف القرن هذا، أنها قدمت الكثير، ولم تنل سوى أقل من القليل، بالمنظور التاريخي لتقدم الأمم، وتطور الشعوب.

وليس بيننا من يريد تكرار ما تحملته تلك الجماهير من آلام وما رافقه من خيبة آمال، وليس هناك أيضاً ما يحول دون ربيع عربي يغسل أثواب المعارضة العربية ويزيل ما علق بها من أوساخ.