نبدأ من فلسطين؛ حيث يتحين الكيان الصهيوني انشغال العرب بقضاياهم الداخلية وتركيز الإعلام الدولي عليها، كي ينقض على الشعب الفلسطيني الأعزل ويواصل تصعيد حربه عليه، كما فعل قبل أيام عندما شن “سلسلة غارات نفذتها الطائرات الإسرائيلية على قطاع غزة تسبّبت حتى الآن بمقتل 16 فلسطينياً وإصابة أكثر من 70 آخرين بجروح”. وننتقل إلى السودان الذي اندلعت فيه الاضطرابات المنذرة باحتمال اتساع دائرتها لتتطور إلى حرب أهلية إذا ما نفذ الرئيس السوداني عمر البشير تهديداته التي أشار فيها إلى احتمال “إنزال مجاهدين حقيقيين بقدر المتظاهرين في الشوارع لردعهم”، بعد أن “وصف المتظاهرين ضد الإجراءات الاقتصادية بشذاذ الآفاق، (مدعياً) أنهم كانوا قلة ولم يجدوا أي تجاوب من الشعب السوداني”. وما أن نصل إلى دمشق، حتى تشدنا صورة سمائها التي شهدت للمرة الثانية تصدي النيران السورية “لطائرة نقل حربية تركية ثانية كانت في مهمة للبحث عن طائرة استطلاع من طراز أف- 4 أسقطتها سوريا قبل أيام” دون أن يخفي ذلك صور المآسي على الأرض. وفي تونس، وقبل أن تستقر الأوضاع هناك، وتعود الأمور إلى حالتها الطبيعية تتخذ السلطات فيها وبشكل مفاجئ غير متوقع قرار “تسليم المحمودي البغدادي إلى السلطات الليبية استناداً (كما قال وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية سمير ديلو، ووزير العدل نور الدين البحيري) إلى اتفاقية تسليم اللاجئين الموقعة مع الحكومة الليبية سنة 1968 وبعد قرار التسليم الذي أصدرته محكمة الاستئناف بتونس”.
في الكويت قدمت الحكومة الكويتية استقالتها إلى أمير البلاد “بعد أيام من قرار المحكمة الدستورية ببطلان الانتخابات التشريعية، وقضت أيضاً بعودة المجلس السابق الذي كان قد تم حله”. وكانت الحكومة “تشكلت قبل أربعة أشهر في أعقاب انتخابات تشريعية. والحكومة المستقيلة هي التاسعة التي تستقيل في هذا البلد الغني بالنفط منذ العام 2006”. يأتي ذلك مرافقاً لبداية “محاكمة 68 شخصاً بينهم تسعة نواب في قضية اقتحام مقر مجلس الأمة للمطالبة باستقالة رئيس الوزراء السابق الشيخ ناصر المحمد الصباح”. أما في اليمن، وإذا ما تجاوزنا الصدامات اليومية بين المتظاهرين المتجمهرين في ميادين الشوارع، والقوات الحكومية حتى بعد تنحي علي عبدالله صالح، وانتقال السلطة الجديدة هناك إلى الرئيس عبد ربه منصور هادي، فسوف نقف أمام صورة المعارك اليومية الدائرة بين القوات اليمنية المسلحة، ومن تتهمهم بالانتماء إلى تنظيم القاعدة، الذي تلقى، حسب الروايات الرسمية هناك “ضربة موجعة، مع انسحاب المتطرفين من آخر معاقلهم في الجنوب”. وبعدها أكد الرئيس اليمني عزمه على مواصلة حربه على “القاعدة “ حتى تطهير البلاد من الإرهابيين” للحفاظ على الاستقرار والأمن”. هذه المعارك، لا ينبغي أن تخفي فسيفساء، بل ربما هي تجسيد لتلك، الصراعات الأخرى التي تنخر جسد الوحدة اليمنية، وتهدد بانهيارها، رغم كل المحاولات المبذولة إخراج اليمن،هو الآخر، من حرب أهلية، متعددة الأطراف.
وتحتل العراق مكانة مميزة في صورة الأحداث العربية ففي مطلع العام 2012 أعلن الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية علي الدباغ بأن “عدد الضحايا الذين سقطوا منذ الخامس من أبريل عام 2004 وحتى 31 ديسمبر 2011 بلغ 69 ألفاً و63 قتيلاً و239 ألفاً و133 جريحاً بناء على تقارير الجهات الحكومية المكلفة بمتابعة هذا الأمر، وهي وزارة الصحة باعتبارها الجهة الأقرب إلى الواقع ومجلس الأمن الوطني”. هذا الأمر يعني عدم وصول الأطراف إلى اتفاق حول الصيغة النهائية التي كان يمكن أن توفرها “اتفاقية أربيل” الهادفة “لإنهاء الفراغ السياسي بعد الانتخابات النيابية، والمتطلعة لاستئناف الحوار السياسي لتحقيق المصالحة الشاملة بين كافة مكونات الشعب العراقي، وضمان حقوق الجميع وتمثيلهم العادل والديمقراطي في الدولة العراقية الجديدة”.
حتى مصر، وكما تشير الكثير من الدلائل، لا يعني فوز ممثل مجموعة الإخوان المسلمين هناك محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية، نزع فتيل احتمالات اندلاع الصدامات العنيفة مجدداً، ودخول البلاد مرة أخرى في دوامة عنف، من الصعب التكهن بما سينجم عنها، ولا الفترة التي ستدوم فيها.
القائمة لا تنتهي عند مصر، والصراعات لا تتوقف عند حدود فاصلة بين الحاكم والمحكوم، بل تمتد كي تشمل بيوت الحكم أيضاً، حيث يعاني البعض منها من الخلافات التي من الخطأ الاستهانة بها، وبين صفوف المحكومين أيضاً، حيث تعاني المعارضات العربية، هي الأخرى من أمراض الفرقة، وأعراض التشرذم.
تختلف الآراء عند تقويم ظواهر عدم الاستقرار التي تعم المنطقة العربية، والتي وصل البعض منها إلى درجة قريبة من “إدمان من يقف وراءها”. فهناك من يرى فيها، وعى من فجروها أم لم يعوا، أصابع أجنبية، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة، لم تعد مصالحها تتفق وسيادة الهدوء في هذه المنطقة، وبالتالي، هي بحاجة إلى إثارة مثل تلك الخلافات التي تيسر لها إحكام قبضتها عليها، من خلال إجبار القوى المعارضة على الاستنجاد بتلك القوى الخارجية، وبث الرعب في صفوف البيوت الحاكمة كي تخضع لشروط تلك القوى الأجنبية، بما يشمل ذلك التحكم في أسعار سلع استراتيجية مثل النفط، أو توقيع صفقات عسكرية باهظة الثمن، على المستويين المالي والسياسي. أبعد من ذلك، وفي نطاق “ نظرية المؤامرة”، تشير بعض أصابع الاتهام نحو العدو الصهيوني، وترى فيه، ومن خلال قنوات غير مباشرة، الجهة الأكثر انغماساً في حيك تلك المؤامرات، والمشاركة الخفية غير المباشرة في تنفيذ بعض فصولها.
البعض الآخر، يرفض لك جملة وتفصيلاً، ويرى في المشهد العربي، صورة طبيعية تعكس استجابة كاملة للتطورات المنطقية التي تفرضها التحولات الاقتصادية والسياسية، وأكثر منها الاجتماعية، التي عرفتها المنطقة على امتداد العقود الستة الماضية، والتي لا تسمح لها الهياكل السياسية المعمول بها، ولا البنى الاقتصادية القائمة أن تعبر عن نفسها، بالشكل الصحيح، وبالصورة المناسبة. هذه التضارب بين ما هو قديم وقائم ومتشبث بالسلطة، وآخر جديد قادم وباحث عن طريق يوصله لها، هو الذي قاد إلى ما عرفته المنطقة من أحداث أطلق عليها البعض اسم “الربيع العربي”. ربما الحقيقة تكمن في تفاعل العاملين، بمعنى أن هناك حاجة ماسة موضوعية للتغير في المنطقة العربية، لا يمكن أن يقف في وجهها، إلا من يصر على السير في اتجاه معاكس لحركة التاريخ، تلمستها القوى الخارجية، وفي مرحلة مبكرة، قد تكون قد سبقت فيها حتى القوى التي انخرطت في الجبهات المطالبة بالتغيير فعملت على الاستفادة منها وتجييرها لما فيه خدمة مصالحها، دون أن يعني ذلك ارتباط من ينادون بالتغيير بتلك القوى الخارجية.
هذا التفاعل غير المنظور، ربما يقف وراء الكثير من التخبط الذي سارت فيه الحركات المطالبة بالتغيير، وعلى حد سواء يفسر العند ورفض الاستجابة له من لدن القوى التي في السلطات التي عرفت بلدانها تلك التحركات، وبالتالي جاءت المحصلة على النحو الذي شهدناه، فلم تنعم المنطقة بالاستقرار بعد، ولم تجن القوى التي وراء الأحداث ثمار تضحيات شعوبها، ولم تنعم البيوت الحاكمة بالاستقرار الذي لا تزال تبحث عنه.