«في هذه المرحلة يمكن التصريح بالآتي لا يوجد دليل على استئناف الأنشطة النووية في البنايات التي تم إنشاؤها أو أعيد إنشاؤها منذ 1998.. كما إنه لا يوجد دليل على وجود الأنشطة النووية المحرمة في البنايات التي تم تفتيشها.. لا يوجد دليل على أن العراق سعى لاستيراد اليورانيوم بعد 1990.. لا يوجد دليل على سعي العراق لاستيراد قضبان الألمنيوم لاستخدامها في التخصيب.. علاوة على ذلك حتى لو سعت العراق لذلك ستواجهها صعوبات فنية.. على الرغم أننا مازلنا نراجع المسائل المرتبطة بالمغناطيسيات وإنتاج المغناطيس.. وأنه في الأسابيع الأخيرة أن العراق تحت الضغط الدولي وافقت على إجراء حوارات ومقابلات وتقديم براهين قد تساعد في حل أي أمر يقلق الوكالة.. إن العراق خال من الأسلحة النووية”.
تلك كانت مقتطفات من خطاب ألقاه وكيل وكالة الطاقة الدولية محمد البرادعي في 7 مارس 2003، يصف فيه بشيء من التفصيل النتائج التي توصل لها الفريق الدولي الذي كان يرأسه شخصياً، للتفتيش على ما روجت له، حينها الدوائر الأمريكية الحاكمة من امتلاك نظام صدام حسين أسلحة نووية، وأسلحة دمار شامل، تهدد الأمن والاستقرار الدوليين. لم يشفع كل ذلك لصدام، ولم يمنع القوات الأمريكية من دخول بغداد في 20 مارس 2003، تحت غطاء “عملية تحرير العراق”، ضاربة عرض الحائط، بكل القيم الدولية، والقوانين العالمية. لا نورد ذلك دفاعاً عن صدام، ولا بكاء على رحيله، بل كي يعتبر منها الحكام العرب، وتحديداً اليوم نظام بشار الأسد، عندما يطلقون تصريحات، مشابهة لتلك التي أطلقها صدام في مطلع هذا القرن، ولم تؤد إلى إسقاط نظامه فحسب، بل، وهو الأسوأ الذي نحذر منه، أوصلت العراق إلى ما وصل إليه اليوم، دولة فقدت قدرتها على الاحتفاظ بتماسكها الوطني الداخلي، وجردت من الاستفادة من ثقلها الإقليمي الذي تستحقه.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه إثر سقوط بغداد أرسل الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش الابن فريق تفتيش أمريكي على رأسه ديفد كي الذي كتب تقريراً سلمه إلى الرئيس الأمريكي في 3 أكتوبر 2003 نص فيه أنه “لم يتم العثور لحد الآن على أي أثر لأسلحة دمار شامل عراقية”، وأكثر من ذلك كله، أن بوش بعظمة لسانه اعترف قائلاً في 2 أغسطس 2004 “ إنه حتى لو كنت أعرف قبل الحرب ما أعرفه الآن من عدم وجود أسلحة محظورة في العراق فإني كنت سأقوم بدخول العراق”.
نسوق تلك المقاطع والمقتطفات، بعد أن استمعنا لتصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية السورية جهاد مقدسي الأخيرة التي قال فيها “إن الجيش لن يستخدم الأسلحة الكيماوية لسحق المسلحين المعارضين لكنها قد تستخدم ضد أي قوات من خارج البلاد، (مضيفاً) أن أي سلاح كيماوي أو جرثومي لن يتم استخدامه أبداً خلال الأزمة في سوريا مهما كانت التطورات لهذه الأزمة في الداخل السوري، (مؤكداً) بأن هذه الأسلحة على مختلف أنواعها مخزنة ومؤمنة من قبل القوات المسلحة السورية وبإشرافها المباشر ولن تستخدم أبداً إلا في حال تعرضت سوريا لعدوان خارجي”.
لن ندخل في جدال عقيم من أجل إثبات مدى صحة تلك الادعاءات حول امتلاك سوريا لمثل هذا الأسلحة، أم لا. إذ إنه في الحالتين، أي سواء كانت بحوزة النظام السوري أسلحة كيماوية، أم لا، ستكون نتائجها على مستقبل سوريا واحدة، وهي تبرير أي تدخل خارجي، تحت أسباب، بغض النظر عن مصداقيتها، لكنها شبيهة بتلك التي قادت إلى الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، والذي لم يكتف بإزالة صدام من الحكم بعد إسقاط نظامه، لكنه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فأمعن في تفتيت العراق اجتماعياً، كي يحوله من دولة عملاقة إقليمياً إلى دويلات متناحرة طائفياً.
كذلك لن نناقش قدرة النظام الحاكم في سوريا على التحكم في تأثيرات تلك الأسلحة، وهو أمر مستبعد، في التمييز بين من هو خارجي كي تفتك به، وسوري كي تتحاشاه، هذا إذا افترضنا جدلاً، وهو افتراض غير قائم أصلاً، أن القوات الدولية، في حال تدخلها، ستأتي، كما يتمنى لها المقدسي، على هيئة جحافل بشرية تسير في خطوط مستقيمة كي تبيح للنظام السوري أن يحدد مكان، وزمان توجيه أسلحته الكيماوية ضدها. نسى النظام السوري، وهو في غمرة انفعاله، أن الحروب اليوم تطورت من بشرية إلى إلكترونية، إلى درجة تستطيع فيها مثل تلك الجيوش أن يكون التدخل البشري المباشر ضئيلاً إلى أبعد الحدود، وربما يأتي في آخر جولات الحرب، ومن أجل إعلان نتائجها فقط، والاستمتاع بمكاسبها.
لذا، وإذا افترضنا جدلاً مرة أخرى، واتفقت الدول الأجنبية على التدخل، فمن المتوقع لها أن تنجز مهمتها في إزاحة النظام، حتى قبل أن يعي النظام حقيقة ذلك، ومن ثم يأتي استخدام “السلاح الكيماوي” الذي يدعي المقدسي أنه قادر على استخدامه، متأخراً بعض الوقت، اللهم إلا من إصابة القرى والبلدات السورية، التي من الطبيعي أن تكون في مرمى مثل تلك الأسلحة، فيتحول الهدف من دفاع يائس عن البقاء، إلى انتقام حاقد من المواطن السوري، الذي لم يرتكب أية جريمة، سوى كونه سوري الأصل، وقدر له أن يكون تحت حكم بشار الأسد.
الخوف هنا، في حال حسم الصراع بتدخل خارجي، أن نهاياته لن تكون على النحو الذي انتهت إليه الأمور في ليبيا، رغم أنه من المبكر الوصول بأي استنتاج حول التأثيرات المستقبلية التي سنراها جراء ذلك التدخل الأجنبي، إنما، ونظراً لطبيعة الأوضاع في سوريا، وموقع سوريا في المنظومة الشرق أوسطية، شبيه إلى حد بعيد، بسيناريو الغزو الأمريكي للعراق، مع بعض الفروقات الطفيفة غير الجوهرية، بفعل الاختلافات، الطفيفة هي الأخرى بين البلدين. أي الإمعان في تشطير البلاد إلى دويلات متطاحنة طائفياً، متهافتة على مكاسب واهية، على حساب وحدة الوطن، ودوره المناط به تاريخياً على المستوى الإقليمي.
شاء النظام السوري أم أبى، فهو بمثل هذه التهديدات العنترية الطائشة، إنما يضع السكين بيد أعدائه من القوى الدولية، وأسوأ من ذلك، هو يسهل، تماماً كما فعل صدام حسين، للقوى الخارجية، بما فيها إسرائيل المتاخمة للحدود السورية، أن تقدم على التدخل، تحت مبررات قد تبدو واهية في نظر العرب، لكنها كافية لتعطي القوى الخارجية التدخل العلني السافر، بالمعايير الدولية السائدة.
ما أشبه ليلة “المقدسي” اليوم بتصريحاته العنترية تلك ببارحة صدام في مطلع هذا القرن. والسؤال ألم يكتف الحكام العرب، من أمثال الأسد وصدام بتقديم دولهم قرابين رخيصة على مذابح “أنا فردية وهمية”، ترغم شعوبهم على دفع أثمانها باهظة غير مبررة؟
ومرة أخرى، ليس الهدف هنا التهجم على نظام الأسد، بقدر ما هو الدفاع عن مستقبل سوريا.