فاقت مؤشرات التطور الديمقراطي في البحرين العديد من الدول في المنطقة التي لها دساتيرها ولها برلماناتها السابقة لنا، ومضى على بعضها عشرات السنين، فالمؤشرات الديمقراطية كما قلنا لا تقف أو تنتهي عند الصلاحيات النيابية فقط، بل هي منظومة واسعة من أوجه المشاركة الشعبية في صناعة وتنفيذ القرار.
إذ إضافة للمؤشرات التي ذكرتها في المقالين السابقين نجد أن التجربة البحرينية الديمقراطية تقدمت في إشراك الهيئات الشعبية المنتخبة ضمن السلطة التنفيذية كما هي في “هيئة سوق العمل” و”صندوق العمل (تمكين)”، وتلك مرحلة ديمقراطية متقدمة تتجاوز ولا تقف عند المشاركة في السلطة التشريعية فحسب.
هاتان هيئتان تنفيذيتان تعتبران ضمن السلطة التنفيذية مناط بهما تنظيم سوق العمل وتمكين البحرينيين في السوق والتمثيل الشعبي ممثلاً في مجالس إداراتها جاء بآلية انتخابية مباشرة من اتحاد العمال ومن غرفة التجارة وذات الآلية موجودة في صندوق التأمين الاجتماعية، وحتى “هيئة ضمان جودة التعليم” والمجلس الأعلى للتعليم يشارك فيهما التمثيل الشعبي بل وحتى الدولي من خلال الشراكة العالمية التي تراقب وتقيم الأداء التعليمي، وكلهم يدرجون ضمن هيئات السلطة التنفيذية.
آلية تشكيل مجالس إدارة تلك الهيئات التنفيذية تعد من ركائز التطوير الديمقراطي الأساسية؛ تلك المؤشرات لا يجب أن تستبعد أو تستثنى من قياس التجربة الديمقراطية البحرينية، وعلى كل من يريد إبراز التجربة لأي مراقب دولي أن يضع في اعتباره ضمهم والتباهي بهم كصورة متقدمة للمشاركة الشعبية لا توجد في كل الدول العربية التي سبقتنا.
لا يجب أن ننجر وراء ادعاء أن الديمقراطية تبدأ وتنتهي عند المجالس النيابية وصلاحيات الأحزاب فقط، تلك دعوة باطلة يراد بها مصالح ذاتية وشخصية واستفادة محدودة واحتكار ماركة المصلحة العامة واحتكار صناعة القرار لدى الأحزاب فقط، فتذهب المشاركة الشعبية كمبدأ وآلية أدراج الريح وتختزل السلطات كلها في يد الأحزاب السياسية فحسب، وقد عانت شعوب كثيرة من تسلط الأحزاب واحتكارها، وعانت من صراع الأحزاب وانعدام فرصة وجود أحزاب جديدة أو صغيرة.
عودة لتلك الهيئات فإن الخلاف على أحد عناصر هذه الهيئات كالخلاف على رسوم العمل مثلاً لا يجب أن يقف حائلاً أمام استمرار المهام المناطة بالصندوق وأهمها تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فهي رهاننا على المستقبل.
إن الرؤية التي تقف وراء هذه الهيئات ومثيلاتها، هي تحسين مخرجات التعليم ودفع الشباب لأخذ زمام المبادرة والعمل الحر رؤية حكيمة فتحت المجال أمام الشباب وأعطت الأمل لهم، لهذا تأتي هيئة تنظيم السوق لتضع البحرين في مقدمة الدول التي تتعامل بشفافية تامة مع حركة السوق بشكل غير مسبوق، وتضع البحرين على رأس سلم الدول التي تتمتع بحرية اقتصادية وبشفافية معلومات وباقتصاد حر.
ثم لا ننسى أن شراكتنا مع الهيئات التعليمية الدولية جعلت من نتائج قياس الجودة للمدارس وللجامعات وللمعاهد نتائج معتمدة دولياً لها مصداقيتها الدولية المعتمدة، مما رفع عن البحرين كثيراً من الحرج الذي شاب المرحلة التعليمية السابقة، خصوصاً تلك المتعلقة بالتراخيص، وأعطى أيضاً بعداً دولياً لمقاييس النجاح عند الطلبة البحرينيين.
وتكتمل الصورة بصندوق العمل “تمكين”؛ الذي فتح آفاقاً للشباب بعيداً عن الارتهان والارتباط بالعمل الحكومي، وحرر الدولة من ريعية قتلت روح الإبداع لدى شبابنا لعقود طويلة، ففتحت لهم مجال المشاريع الخاصة، وللتو بدأ شبابنا يدرك فائدة وجدوى العمل الحر والخاص.
كل تلك المكتسبات لا يجب أن تهدر أو تقلص أو تمس؛ بل يجب أن نحافظ عليها ونعززها ونباهي بها الأمم، ومن الظلم أن ننسفها أو نخسرها، لأن هناك تذمراً من دفع الرسوم مثلاً أو هناك تذمر من هيكلية إدارية خارج إطار الخدمة المدنية، إنها أسباب واهية ليست شيئاً يذكر أمام ما يحصده المجتمع البحريني من إنجازات تلك الهيئات.
وأسباب التذمر هي واحدة من المتغيرات التي كانت صعباً على النظام الحكومي السابق تقبلها، وصعباً على طبيعة التاجر أو المقاول البحريني تقبلها أيضاً، وصعباً على الشباب الاقتناع بها، فهي مبنية على مشاركة إيجابية لا تعتمد على الدولة الريعية التي تمسك بزمام الأمور في كل شاردة وواردة في الاقتصاد، مما جعل المكاسب تتركز في أيد محدودة هي المستفيدة فقط مما تلقيه عليهم الحكومة من مشاريع ومناقصات، في حين أن الاستراتيجية الجديدة تعمل على توزيع الموازين بشكل أكثر تفاعلية بين المواطن الفرد وبين الثروات.
لهذا فإن تلك مكتسبات هي مكتسبات أفرزتها التجربة الديمقراطية البحرينية الفريدة، ندعو القوى الوطنية وندعو المجلس النيابي وندعو السلطة التنفيذية لتقويتها وتعزيزها بعيداً عن أي اعتبارات سياسية أو غيرها