هل يمكن الحديث -دون أن يكون في الأمر أي مجازفة معرفية- عن ثقافة للقرية وأخرى للمدنية في الحالة البحرينية، بما يستتبع ذلك من استنتاجات على صعيد المنظور والرؤية للحياة والسياسة والمجتمع؟ هل يجوز القول -مثلما توصل إليه البعض في سياقات التحليل والإحالة- إن القرية هي فضاء المحافظة الذي يقاوم الحداثة والأفكار الجديدة ويتأقلم معها بصعوبة بالغة في حين أن المدينة هي عالم الحرية والتفتح والقابلية للأخذ بأسس الحداثة؟
شخصياً أرى أن الحديث عن ثقافة للقرية وأخرى للمدينة، ومثقف قروي وآخر مديني، غير دقيق في الواقع البحريني، وذلك أن الفرق بين القرية والمدينة في إطار هذا الواقع الجغرافي - الاجتماعي، ليس كبيراً ولا بارزاً، لأن البحرين في النهاية مدينة كبيرة بضواحيها وأطرافها وتجمعاتها السكانية المختلفة، وحتى الإيحاء الطائفي في مثل هذه المقارنة فليس له دور في البنية الثقافية العميقة للمجتمع البحريني إلا في إطار محدود، على صعيد بعض جوانب الذاكرة والإحالة الرمزية التي تتجسد في بعض المفردات والمجازات في الكتابة أو في التشكيل، ومع ذلك فإذا كان بالإمكان من حيث التصنيفات الجغرافية والسكانية الحديث عما هو قروي وما هو مديني، فإن مثل هذا الحديث في الجانب الثقافي يصبح أقرب إلى المجاز منه إلى الواقع الملموس، لأن المسافة بين المدينة والقرية تقلصت على كافة الجوانب، ولأن نمط الحياة الاجتماعي والاقتصادي توحد أو كاد، ولأن ثورة الاتصال ألغت أي فوارق على صعيد التلقي المعرفي، فعلاً إذا كان المقصود بذلك الدور الحيوي الذي لعبته القرية البحرينية في إثراء الثقافة المحلية والمحافظة على التراث الثقافي بكل أبعاده، وفي هذا السياق فقط يتنزل حديثنا عن الدور الثقافي للقرية البحرينية.
بالتشكيل الجغرافي لمملكة البحرين لا يمكننا الحديث عن ثقافتين واحدة للمدينة وأخرى للقرية، فهنالك انصهار كبير في هذا المجال بين ما بقي من القرية والمدينة، فأبناء القرية ومثقفوها يشاركون بشكل كبير في العمل الثقافي والإبداعي والفكري، ومع ذلك يمكن تسجيل بعض الملاحظات التي قد يكون لها بعض التأثير على صعيد البناء الاجتماعي - السياسي في إطار المقارنة بين الفضاءين:
أولاً: يجب أن ننوه بدايةً أن المسألة لا تتعلق فقط بالحيز الجغرافي، بل تتعلق بالانتماء الاجتماعي - الروحي للأفراد والعائلات والجماعات، والذين قد يغادرون القرية للسكن في المدن الجديدة، ولكنها تظل مغادرة شكلية فقط، فالارتباط يستمر على نحو متقطع ولكنه يظل مؤثراً على نحو عميق، ولا يتوقع أن يتغير مثل هذا الأمر إلا بعد جيل أو جيلين على الأقل.
ثانياً: إن المدينة قادرة على جعل من يسكنها “سواء من سكانها الأصليين أو ممن استقر بها لفترة طويلة” كائنات أكثر تعقيداً وتنوعاً في الرؤية وفي التعبير عن الانتماء الفردي، بعكس القرية التي يساعد فضاؤها على بناء عالم نمطي رتيب مكرر واتباعي، يميل إلى التعبير الجماعي عن الوجود والارتباط بالجذور والانصياع إلى سلطة الجماعة، وإذا كانت المدينة مكاناً يتعلم فيه الناس العيش مع من لا يعرفونهم، ويشاركون في تجارب واهتمامات غير مألوفة بما يساعد على بناء الاتجاهات الفردية والأفكار الحرة، فإن القرية تساعد على بناء المواقف الجماعية والرؤى التضامنية على الصعيدين الاجتماعي والسياسي مع ميل شديد للاتباعية والانصياع لسلطة الجماعة.
ثالثاً: إن التنميط يسبب الاتباعية ويؤدي إلى تقليص البعد الاجتهادي، ولذلك نجد في القرية حالة واسعة من التكرارية في الأفكار والمواقف تكاد تكون متطابقة “مهما كان المستوى الثقافي للأفراد فإن تأثير هذا المستوى يظل محدوداً” في حين أن التنوع الاجتماعي والفردية في المدن يؤديان إلى شحذ الفكر والتنوع في الرؤية والموقف، وأن مساحة الحرية والتجدد يؤديان إلى الخروج عن أي نمطية مفروضة “حتى داخل الأحزاب السياسية التي يفترض بها أن تعبر عن رؤى موحدة يوجد داخلها في المدن اصطراع داخلي حيوي في النقاش قد يؤدي في بعض الأحيان إلى انشقاقات على أسس فكرية أو سياسية”.
رابعاً: تقدم المدينة لساكنيها إمكانية تطوير إدراك أكثر تعقيداً وغنى عن أنفسهم. فهم ليسوا فقط برجوازيين أو كادحين: يمكنهم أن يكونوا هذا أو ذاك أو هذا وذاك في الوقت نفسه، وحتى أكثر من ذلك، فهم ليسوا مجبرين على التعبير عن أنفسهم وآرائهم وأفكارهم ومواقفهم السياسية بصورة هوية واحدة أو توحيدية. فيمكن للسكان في المدن تقديم صور متعددة عن هويتهم مع العلم أن ما هم عليه يتغير بحسب الأشخاص الذين يعاشرونهم. قدرة التنوع تحرر من أي تماهٍ عشوائي. وإذ كان ابن المدينة قادراً في الأمكنة العامة على تلبس قناع هادئ والتصرف في الفضاءات العامة بلامبالاة حيال الآخرين أو حتى حيال ما يحدث حوله “مالي وما للآخرين!”، فهو في ذات الوقت مندفع في حياته الخاصة وحيال مواقفه الخاصة بدون قيود كبيرة. كما إن اقتناعاته قابلة للتغير والتطور والنمو وحتى للزعزعة بوجود الآخرين حوله في تنوعهم وتنوع أفكارهم ومواقفهم الثقافية والاجتماعية والسياسية.
هذا بعكس القرية وعالمها اللذين يدفعان بالأفراد إلى التضامن والتفاعل الاجتماعي المقدم على التنوع السياسي والفكري، ونلاحظ هنا ميل سكان القرية إلى التآلف والتحالف في مواجهة الخارج سواء أكان قرية أُخرى أو مدينه أو فكرة، وربما هذا ما قد يفسر ولو جزئياً حدوث التحالفات التي تبدو من الخارج غريبة على الصعيد السياسي بين التيارات الدينية والتيارات العلمانية.