قوى سياسية كانت في موقع المشاهد من تحركات الجماهير العربية في الأقطار العربية التي شهدت أحداث الربيع العربي، كانت حذرة جداً من المشاركة فيها، ولكنها كانت تقتنص الفرصة للمشاركة في مغانمها، وبعدما تيقنت من إحداث التغيير تقربت شيئاً فشيئاً منها، وفي النهاية الختامية لها برزت واستأثرت بنتاجها. وكان المفروض أن يكون نتاج هذا الربيع هي القوى الوطنية والقومية الليبرالية إلا أن القوى الاسلامية حصدت ما لم تزرعه، ونالت أغلبية المقاعد البرلمانية، واستأثرت بأغلبية المؤسسات الرسمية في تلك الأقطار تحت ظلال الديمقراطية. فحزب «النهضة» في تونس أولاً، وحزب «الحرية والعدالة» في مصر ثانياً، وحزب «العدالة والتنمية» في المغرب “الذي لم يشهد ثورات وإنما شهد إصلاحات سياسية” ثالثاً، وفي ليبيا التي شارك «الناتو» في تغيير النظام السياسي لم يفلح الإسلاميون في الحصول على ما أرادوه.وإن كانت هذه إحدى النتائج الديمقراطية -التي ليس لدينا عليها أي اعتراض- فنحن نتساءل: في ظل هذا الحراك السياسي والمتغيرات السلطوية العربية، ماذا أعدت هذه الأحزاب الإسلامية للمجتمعات العربية؟ فهل هم لديهم تصورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتنموية تكون قادرة على مواجهة التحديات التي تواجهها الأقطار العربية؟ وهل لديها الأطر السياسية لتطوير المجتمع العربي وتعزيز ثقافة الديمقراطية؟ هل ستقبل هذه الأحزاب التعددية السياسية؟ وماذا عن مشاكل البطالة والفن والإبداع؟ وماذا عن مواقع الفساد الإداري والمالي؟ وهل تسير هذه الأحزاب على نهج مواطنة الانتماء للوطن أو مواطنة الانتماء للدين؟؟إن إعداد أي مشروع لأي مجتمع يتطلب نظرة شمولية متكاملة للحياة، وليس لدين معين فقط، يتطلب إعطاء تصور للمجتمع من كافة الجوانب، من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وفنية، ويتطلب أيضاً تتويج هذا المشروع بالعلاقة الإنسانية الاجتماعية وبقيمها الأخلاقية، وهؤلاء الذين تشبثوا بأحداث الربيع العربي في آخر اللحظات لا يمتلكون أياً من الثقافة الدينية إلا في شكلها وبعيداً عن جوهرها وسموها. وهؤلاء الذين وصلوا إلى مقاعد الحُكم بالديمقراطية لا يؤمنون بالنهج الديمقراطي، لأن الإسلام يؤمن ويطبق مبدأ الشورى وهو التعيين، وهو اختيار إلهي وليس بالديمقراطية التي هي اختيار بشري، ولكن الإيمان شيء والفعل شي آخر، وحتى ولو آمنوا بالديمقراطية «مؤقتاً».. فإن هي حققت لهم مآربهم فهي نزيهة وعفيفة، وإن لم ينالوا نتاجاً وفيراً منها فإنها زائفة ومزيفة، ومن سمات ديمقراطيتهم أنهم يؤمنون بالتهميش لمن خالفهم الفكر والعقيدة، ويسقطون رأي من لم يكن معهم في رأيهم، ويستبدون برأيهم لأنهم يعتبرون أنفسهم ممثلين للإله في الأرض، والقائمين بأمر خلقه. والمشروع ليس بشعاراته، ولا بعدد أوراقه، وإنما يكون بالقدرة على ترجمته على أرض الواقع، وتغيير شخوص الحُكم لا يعني أن تغييرات حقيقية قد حدثت في المجتمع، إنما ما تطرحه من بدائل سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية لابد أن تحقق نتاجاً وطنياً صحيحاً، وهو ذلك التغيير المطلوب، وهو الهدف الحقيقي للربيع العربي.ولكن المتتبع للأحداث المتوالية في أقطار الربيع العربي التي تغيرت شخوص أنظمتهما السياسية هي في الواقع انتقلت من أزمة نظام حُكم إلى أزمة دولة، حيث كانت الأزمة بالأمس تتعلق بنظام الحُكم وإسقاطه، والآن وبعد أن سقطت شخوص تلك الأنظمة فإن هذه الدول تعيش اليوم في أزمة، أزمة هوية النظام السياسي للدولة، أزمة هوية المواطن في النظام الذي أصبح أكثره امتداداً للنظام السابق في ممارساته. إن ورثة الربيع العربي عليهم مسؤوليات جمة ومؤثرة، منها البطالة وخاصة في صفوف الشباب العربي، تعثر وانخفاض القوى الإنتاجية وصعوبة الاندماج في اقتصاديات دول العالم بسبب عدم الاستقرار، وغياب الأمن والهوية السياسية والوطنية للدولة، هذا الأمر ساهم في ارتفاع الديون الخارجية التي أنهكت بالأمس اقتصادها القومي، وستزيد من انهاكه اليوم وغداً. هذه الأمور وغيرها أول ما يتطلب فعله هو توفر إرادة حقيقية للإصلاح تشمل سياسات تنموية وتعليمية وإنتاجية وتنقية أجواء الاستثمار من جميع شوائب الفساد. وعلى هذه الأقطار أن تهجر الاستفادة من التجارب السياسية إلى الاستفادة من سجلات تجارب الدول التنموية الصغيرة التي حققت طفرة كبيرة في التقدم الاقتصادي كماليزيا وتايوان وغيرها من الدول التي انتقلت من حالة التخلف الاقتصادي والجمود إلى حالة التنمية والازدهار الاقتصادي، وذلك بفضل إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني وتصحيح خلخلة البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية القديمة وأنتجت قيماً تنموية حديثة. فهل يستطيع ورثة الربيع العربي فعل ذلك؟