الداعية إلى الله مأمور بأن يتدرج في دعوته ويتلطف مع المدعوين ويتآلفهم، وقد يسكت عن بعض المنكرات التي تدور حوله ويغض الطرف عن بعضها لتحقيق مصلحة أكبر وليتلافى مفسدة أعظم، لكنه أبداً لا يساوم على عقيدته أو أحكام شريعته ليحقق مصالح أخرى أو يصطلح مع الآخرين على حلول وسط، كما هي لغة التجار في معاملاتهم، فهناك فرقٌ بين عقيدة الإنسان وقيمه الإيمانية والتربوية وبين التجارة.
إن العقيدة عبارة عن كل مترابط وحلقات متصلة تمثل في مجموعها صورة مشرقة ونقصان أي جزء منها يفسدها، وكذلك الشريعة ذلك النظام الرباني المتكامل والديانة المحكمة المتوازنة، لذلك كان لجوء الداعية أو طلبة العلم إلى المساومة في مسائل الإسلام لاسيما العظام منها، سيؤدي إلى مفاسد عديدة، ومنها:
ضعف ثقة الطرف الآخر (المساوم) في سمو وكمال الشريعة وأن أحكامها هي واجبة النفاذ والتطبيق في كل زمان ومكان، وضعف ثقته فيمن يساومهم فلا يثقون فيه ولا يحترمونه لأنه تنازل عن أشياء لا ينبغي له أن يتنازل عنها، وكذلك يؤدي إلى تشتت في الجهود والتضارب في الأولويات، ويتجرأ غيره على المساومة في أمور أخطر ومعاصي أكبر.
ومن مفاسد المساومة تعريض أحكام الشريعة للمزايدة فيمن يقابل التنازل بسعر أقل وتكلفة أدنى، وغالباً ما لا يوفي المساوم ما تعهد به بعد أن يتحقق ما يريد.
فضلاً عن ذلك فإن المساومة تكون في أمور متكافئة فبأي شيء يقابل الإنسان عقيدته التي يعتز بها، وإذا كان أهل الدنيا لا يساومون على أمور من دينياهم كالحريات والاستقرار ولا يقبلون به عوضاً فكيف بأهل الدين يساومون على دينهم، فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها ولا يتنازل عن بعضها.
لقد جاء النهي عن المساومة في الأمور القطعيات واليقينيات منذ بدايات الإسلام وقد كان المسلمون قلة ضعفاء والدعوة محاصرة فقد عرض عليه الجاهليون التخفف والليونة في بعض أحكام الشرع ليحفظوا شيئاً من ماء وجوههم إلا أن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم (ودوا لو تدهن فيدهنون) قال الكلبي: لو تلين لهم فيلينون لك. قال الحسن: لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم.
رغم أنه كان ألين الناس وأرأفهم وأحسنهم معاملة للخلق فلم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال، أو يتوانى عن إظهار الحق والدين الذي يدعو إليه، فهو بذلك القدوة والأسوة من بعده