أذكر أنني في أول لقاء مع الصديق الكبير اللواء الأخ طلعت مسلّم في أواسط ثمانينات القرن الماضي سألته عن واقع الجيش المصري وأنا قلق على مستقبل مصر بعد معاهدة كمب ديفيد، فأجاب اللواء (الذي تخّرج من الكلية العسكرية المصرية أياماً قبل ثورة يوليو، وشارك في كل حروب مصر (1956 ،1967، 1973) قائلاً: قبل فترة جرى استطلاع بين تلامذة أكاديمية ناصر العسكرية العليا حول من يعتبرونه “مثلهم الأعلى”، فجاء الجواب من أكثر من 80% من هؤلاء التلامذة وهم من أصحاب “الرتب الصغيرة”: “انه جمال عبد الناصر”، فيما توزع الآخرون على رموز وطنية مصرية كأحمد عرابي، وعبدالمنعم رياض، واحمد عبدالعزيز وكلها أسماء تشير إلى أن الاعتبار الوطني هو الاعتبار الأول الذي يحكم نظرة قوات مصر المسّلحة إلى تاريخها، خصوصاً أن الجيش المصري لم يتخل يوماً رغم “كامب ديفيد” عن اعتبار الكيان الصهيوني عدوه الأول في عقيدته القتالية.
تعّززت يومها ثقتي بعظمة مصر، بشعبها وجيشها، كما بعظمة جمال عبدالناصر وثورة يوليو، وأدركت أن عظمة الرجل لا تكمن فقط في أنه قاد مصر، ومعها الأمة العربية، بل في أنه اكتشف مصر قبل أن يقودها، بل قادها لأنه اكتشف حاجاتها الحقيقية على غير صعيد.
لقد اكتشف عبد الناصر، وهو محاصر في الفلوجة - غزة في حرب 1948 مع العدو الصهيوني، أن المعركة ليست “هنا” -حيث كان محاصراً- بل “هناك” في القاهرة حيث الاستعمار يتحكم بالبلاد، والفساد يتحكم بالعباد، فكانت الخطوات الأولى في إنشاء تنظيم الضباط الأحرار الذي أطلق ثورة غيّرت وجه مصر، وهزّت وجدان الأمة، واحتلت موقعها في ضمير العالم.
واكتشف عبدالناصر حاجة المصريين إلى استعادة كرامتهم من براثن جيش محتل، ونظام مترهل، وطبقة حاكمة فاسدة ومفسدة، فكان شعار ثورته “أرفع رأسك يا أخي.. فقد ولى عهد الاستعباد” هو الشعار ذاته الذي ردد معظمه ثوار 25 يناير 2011 حين قالوا “أرفع رأسك يا أخي.. فأنت مصري”، مؤكدين في ذلك ترابط الثورات في مصر، وهو ترابط أدركه أيضاً جمال عبدالناصر حين اعتبر ثورة يوليو امتداداً لثورات سعد زغلول، ومصطفى كامل، واحمد عرابي، مدركاً أن من يتنكر لماضيه، يرتبك في حاضره، ويفقد مستقبله. وأن من يساوم في حق من حقوق أمته يوما يبقى أبد الدهر “سقيم الوجدان”.
واكتشف عبد الناصر بعفوية وطنية صادقة أن أمن مصر مرتبط بالأمن القومي العربي، وان الأمن القومي العربي ينطلق من قانون تاريخي هو فكرة التكامل بين مصر وسوريا، فوجد نفسه ورفاقه يندفعون بعد أقل من ست سنوات على ثورتهم ليقيموا أول وحدة عربية مع سوريا في فبراير 1958، بل ويهبون لنصرة سوريا بوجه الحشود العسكرية الصهيونية في مايو 1967، وهي نصرة قادت إلى حرب حزيران رغم كل تكاليفها.
واكتشف عبدالناصر كذلك موقع فلسطين في حياة مصر وأمنها القومي وعمقها الاستراتيجي وتجربتها التاريخية والتزامها الروحي والحضاري، فاعتبرها مقياساً في علاقاته ومعياراً لسلامة مواقفه، محتضنا مقاومتها مدركاً ان “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”، وان “المقاومة وجدت لتبقى.. وستبقى”...
واكتشف عبد الناصر أيضاً، وبتجريبية خالصة، أن معركة الخبز في مصر مرتبطة مع معركة الكرامة، وان المعركتين هما وجهان لمعركة الاستقلال والتنمية، فلا استقلال حقيقياً دون تنمية تحصنه، ولا تنمية جادة دون استقلال يصونها من التلاعب والفساد، فكان مشروعه الثوري تعبيراً عن ترابط التنمية بالاستقلال، والعدل بالكفاية، والديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاجتماعية.. تماماً كما كان مشروعه القومي العربي تعبيراً عن إدراكه أن لا تنمية حقيقية في مصر دون تكامل اقتصادي عربي، وان هذا التكامل يوفر كل عناصر التنمية الحقيقية، فيما غياب التكامل لا يقود الاّ تنمية مشوّهة إلى الدول الفقيرة والغنية على حد سواء.
ولقد كانت معركة ناصر لبناء السد العالي، فتأميم قناة السويس، فمواجهة العدوان الثلاثي عام 1956، هي خير تجسيد لفكرة التلازم بين التنمية والاستقلال، بل لفكرة الارتباط بين التنمية والمقاومة، فالمجتمع غير المحصن بالمقاومة غير قادر على حماية منجزات التنمية.
واكتشف عبدالناصر بحّس تاريخي واستراتيجي، وبوعي حضاري وثقافي، إن مصر تتحرك في دوائر ثلاث؛ عربية وإسلامية وافريقية، فقاد بلاده لكي تلعب دوراً حاسماً في هذه الدوائر، وهو دور ما زال أحرار الأمة، وأمم الجوار، يذكرونه لمصر وقائدها، بل ويتحسّرون على يوم كانت فيه مصر تُقدم ولا تُحجم، تقود ولا تقاد، فكان فيه للعرب والمسلمين وأحرار العالم وزن وشأن ودور قيادي.
واكشف قائد ثورة يوليو المجيدة حاجة مصر، بل وقدرتها، على أن تسهم في تغيير قواعد الصراع في المنطقة والعالم، وأدرك أن مصر لا تنتظر أن يأتيها التغيير من خارجها، بل انها مؤهلة لتقود التغيير في خارجها من الداخل، فتحوّلت مصر بأقل من ثلاث سنوات من بلد مستغرق بهموم التغيير الداخلي، إلى دولة ترسم، منذ محطة باندونغ عام 1955، خارطة طريق لتغيير دولي حاسم، سقطت من خلاله إمبراطوريات الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا)، وتبرز من خلاله ملامح عالم جديد شكّلت دول عدم الانحياز فريقاً ثالثاً مهماً فيه.
اكتشف قائد ثورة يوليو حاجة مصر لأبنائها، لا سيّما الفقراء والمهمشين وأبناء الطبقات الشعبية والوسطى، فقاد منذ لحظات انتصار الثورة مشروع العدل الاجتماعي حيث لا يموت فقير من العوز، ولا غني من التخمة، معتبراً أن هذا العدل الاجتماعي شرط ضروري للحرية السياسية، ومستشرفاً منذ أكثر من ستين عاماً خطورة “المال السياسي” الذي بات اليوم أحد أخطر العوائق في وجه التطور السياسي والاستقلال الوطني.
«فالمال السياسي” بعناوينه المتعددة، لا يعيد إنتاج الواقع المتردي مرة تلو الأخرى، بل هو يسهم في تصدع منظومة المبادئ الوطنية والقيم الأخلاقية التي قامت عليها مجتمعاتنا، وهو تصدّع يؤدي إلى خلخلة في مرتكزات حياتنا نفسها، فتصبح الخيانة وجهة نظر، والجريمة، بكل أشكالها، قاعدة العلاقات الإنسانية، والتطرف بكل عناوينه لغة التخاطب بين الناس، وينتقل معها فكرة الريع كبديل عن الجهد والإنتاج من عالم الاقتصاد إلى عالم السياسة والاجتماع.
واكشف ناصر أيضاً حاجة مصر وقدرة الأمة على مواجهة حاسمة وصارمة مع كل مخططات التدخل الخارجي والمشاريع الاستعمارية، فبدأ مع أحرار العرب والعالم، وبعد عامين فقط على ثورة مصر، معركة إسقاط الأحلاف والمشاريع الاستعمارية والقواعد العسكرية والمعاهدات المذّلة والاحتلال الأجنبي، فنجح في معظم تلك المعارك، حتى تمّكن منه الأعداء في يونيو 1967، لينتفض مرة أخرى مع شعبه مهيئاً لحرب اكتوبر التي حققّ فيها جيشا مصر وسوريا انتصارات كبيرة، الاّ أن الثغرة الأكبر كانت في غياب القائد الذي مهّد وجهّز وخطّط، وكان مؤهلاً لأن يحدث تغييراً جذرياً في قواعد الصراع مع العدو لو قيّض له أن يكون حياً زمن العبور.
نعم لقد اكتشف ثوار يوليو حاجات مصر والأمة وقدراتها، فتمكنوا من قيادتهما معاً في معركة لم تتوقف، تخللتها أخطاء وربما خطايا، لكنها في كل الأحوال، بقيت علامة فارقة في تاريخنا نقيس من خلالها المواقف، ونستعير من دروسها المعايير، ونتعلم من عبرها معاني الكرامة الوطنية والشموخ القومي والرحابة الإنسانية..
لقد كانت عظمة عبدالناصر أيضاً الحقيقية انه ربط بين خيار الثورة وحاجات مصر ومسارها الموضوعي فهل يستطيع ثوار يناير، على اختلاف مسمياتهم وعناوينهم، أيضاً أن يكتشفوا حاجات مصر والأمة وقدراتهما، لكي يكملوا مساراً بدأه ثوار من قبلهم، فيتجنبون أخطاءهم، وأبرزها إقصاء الآخرين، ويطورون الايجابيات وأبرزها الإحساس بكرامة مصر في أمتها، وكرامة الأمة في العالم كله.
بل هل يستطيع ثوار يناير، بكل اتجاهاتهم، ان يتطلعوا إلى ثورة يوليو بعين الاعتزاز بما حققته، لا بعين الحقد وبعين النقد المحب لما عجزت عن تحقيقه لا بعين التوتر على ما رافقها من صراعات، ولا بروح نبش الماضي بكل ما فيه من حساسيات.
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90